صفحات العالم

الشعب وجهاً لوجه مع «الصفقة الدولية»


عبد الوهاب بدرخان

علامَ اتفقوا في جنيف؟ على الشروع في المرحلة الانتقالية بعد النظام السوري. وعلامَ اختلفوا؟ على تنحي/ رحيل الرئيس السوري. فهل اتفقوا اذاً؟ لا، لم يتغيّر شيء على الأرجح. والدليل: اللغة الخشبية الروسية صامدة، لغة التمنيات الاميركية مستمرة، ولغة بائع الأوهام كوفي انان لم تتبدّل بل زادت سوءاً مع اشارته الى أن «العملية» تحتاج الى «سَنَة». فإما أنه واثق بما يقول وإمّا أنه يحلم. لم يحصل على الجديد الذي أمل به من «مجموعة الاتصال» هذه.

كانت محطة جنيف تمريناً آخر على الاختلاف ذاته بين المعسكرين: الروسي – الصيني المستقوي بمجازر النظام السوري، والاميركي – الفرنسي – البريطاني المحرج بتضحيات الشعب السوري وتصميمه. المساومة الحقيقية لم تبدأ. التفاهمات الاميركية – الروسية لم تبلغ النقطة الحاسمة بعد. سُحبت من ورقة انان الأعصاب والعضلات وكل ما يمكن أن يوضح معالم الطريق الى «العملية السياسية». لم يقل أحد أن هناك آليات عمل، أو جدول زمني. استُبعد البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. فلا إلزام للنظام، لكن أحداً لن يستغرب اذا ابدى استعداداً لـ «الالتزام»، على غرار ما فعل بمبادرة الجامعة العربية وبـ «خطة انان»، ما يمنحه هامش الوقت والمناورة لجولات دموية اخرى. ثم أنه مستعد لـ «الحوار»، اذا توفّر المحاورون، حتى أنه جهّز حكومته الجديدة بـ «وزير للمصالحة الوطنية».

جنيف كانت تعبيراً عن تفاهم اميركي – روسي، يتجدد خطوة خطوة، ويسير ببطء في اتجاه أن يصبح «صفقة» لا تريد الولايات المتحدة أي كلفة فيها لباراك اوباما في سنته الانتخابية. كل من الطرفين بات يعرف حدود الآخر. أقصيا ايران عن «مجموعة الاتصال»، اذ حاولت موسكو ادخالها الى خريطة النفوذ الاقليمي من الباب السوري، لكن واشنطن ترفض الخلط بين الملفات، فلا اقحام لقضية الشرق الاوسط وتعثر المفاوضات مع سورية لئلا تطلب اسرائيل حق النظر في التسوية الجاري طبخها، ولا تعاطي مع طهران إلا بعد حل الأزمة النووية. وتدرك موسكو أن انعدام المصالح الاميركية في سورية يشلّ واشنطن، ما يترك لها الساحة لتفرض شروطها، فتحاضر بعدم التدخل وعدم فرض أي شيء لكنها تتحدث من موقع تدخلي جداً وتستهزئ بدم الشعب السوري بلهجة فرضية جداً. وبمقدار ما يبدو الاميركيون مسلّمين للروس بأن اللعبة لعبتهم بمقدار ما يتعاملون مع الوضع السوري بمجرد تمني التغيير من دون تبنيه. لكن طالما أن الأمر في يد الروس فلماذا لا يتحركون، وهل باتوا حقاً مستعدّين للإقدام، وهل لديهم الارادة، والأهم هل يستطيعون؟ هنا، ثمة شكوك، لأن نقطة قوتهم المتمثلة بالنظام صارت هي نفسها نقطة ضعفهم، ثم أن موقفهم المفضوح ضد الشعب أوجد هوة شاسعة بينهم وبين الأرض مع إدراك الجميع واعترافهم الآن، بمن فيهم المعارضة في الخارج والداخل، بأن قرار الثورة في يدها ولا يمكن لجمها حتى بحجب السلاح أو المساعدات عنها.

وكانت جنيف أيضاً فرصة لرصد العراق وقد حسم موقفه أخيراً، فرئاسة القمة العربية (التي يمثلها) في موقع، والأمانة العامة للجامعة العربية في موقع آخر. العراق كان مؤيداً لعدم «فرض الحل»، من قبيل الاستقلالية والحياد، كما قيل، لكن الحياد لا يستقيم بين القاتل والمقتول، بين الطاغية والضحايا. نسي العراقيون من أين أتوا، وكيف ومن أجل ماذا، فأصبحوا في صف المدافعين عن النظام السوري الذي يدّعون أنه «نقيض» النظام العراقي الحالي، إلا اذا وجب تصديق من يقولون أنه توصل بدوره الى انتاج «ديكتاتورية جديدة».

ومن جنيف الى القاهرة حيث التأمت أطياف المعارضة وكان مطلوباً منها أن «تتوحّد» في «وثيقة عهد» تكون بمثابة دستور للحكم المقبل. أي أن تضع «تصوراً لنظام تعددي ديموقراطي لا يميز بين السوريين»، وأن تحدد الأولويات وتبعث برسالة طمأنة الى الشعب السوري في الداخل والى المجتمع الاقليمي والدولي بأن المرحلة الانتقالية «ستستجيب تطلعات الشعب السوري وآماله». بل المطلوب من المعارضة أن تطمئن روسيا (بموجب تفاهمات كلينتون – لافروف) وايران (بموجب تضامن موسكو – طهران)، من دون أن يكون لديها ضمان واحد بأن الروس والايرانيين في صدد التخلي فعلياً عن النظام. صحيح أن واشنطن تحدثت عن «ضمانات صلبة» لدى المعارضة بأن الاسد لن يشارك على الاطلاق في أي حكومة يتفق عليها، إلا أن هذه الضمانات الاميركية لا قيمة لها ويلزمها من يضمنها هي الاخرى. فالشعب السوري سمع الكثير من الكلام الدولي خلال الشهور القاسية الطويلة، ولم يرَ سوى مساومات على دمه لا علاقة لها بـ «الضمانات» المتوقعة منه. كانت المعارضة تعرف، ولعلها عرفت أكثر، من خلال الحضور العربي والتركي والمواكبة الدولية المباشرة للقاء القاهرة، أنها مدعوة الى قرار صعب لا يكمن في الوثيقة المطلوبة منها وإنما في الموافقة على اجتراع أكثر من كأس سم واحدة في آن، ولا ضمانات لديها. والأخطر أنها قد تواجه رفض صارماً من الثوار في الداخل.

هناك رابط بين جنيف والقاهرة، بين جمع المعارضات ولقاء «مجموعة الاتصال»، ويُفترض أنهما متكاملان تحت مظلة «خطة انان». اذ يمكن المبعوث الدولي – العربي أن يتأبط «اتفاق» الدول الخمس الكبرى و «وثيقة» المعارضة ليبلغ الرئيس السوري أن الظروف تأمنت للبدء بـ «عملية سياسية». قبل ذلك ينبغي أن تكون روسيا مهّدت الطريق بإحاطة بشار الاسد بمضمون تفاهمها مع الولايات المتحدة، وإلا فإن انان لن يتمكن من التحرك ولو خطوة واحدة. اذ أن الخطوة الأولى بالغة الأهمية، وهي الكفيلة بكشف حقيقة ما حصل في جنيف وهل كان «اتفاقاً» يستبطن تنحي الاسد أم يستبقيه ليرعى تشكيل «الحكومة التعددية الانتقالية» المرتقبة من «الحوار» المزمع اطلاقه. وفي حدود ما أمكن فهمه عن النيات الروسية فإنها ستبقى لفترة طويلة بحاجة الى النظام بما فيه رأسه، وهي ليست مستعدّة للعب النظيف خلال «الحوار» اذا قدّر له أن يحصل. ذاك أن عقدة العُقد ستبقى الأمن وأسلحته وأجهزته وبالأخص مستقبله الذي ترى روسيا أنها معنية به على نحو خاص. لم يرد في «اتفاق جنيف»، رغم اقترابه من «السيناريو اليمني» ولو مموّهاً، أي اشارة الى آلة العنف النظامي سواء بإعادة هيكلتها أو بضبطها. فكيف يتصوّر «المتفقون» في جنيف أن تكون هناك «حكومة انتقالية تملك الصلاحيات التنفيذية كاملة» في ظل جحافل البطش والإجرام، فهل تشمل تلك الصلاحيات تغيير القادة الأمنيين جميعاً، واذا لم تشمله فكيف لحكومة كهذه أن تعمل؟ أسئلة كهذه لا بد أن تُطرح جدلاً وإن كان الواقع لا ينبئ بأن «الحوار» نفسه بات ممكناً.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى