الشعب يريد… فمَن هو الشعب؟
فادي العبد الله
“الشعب يريد إسقاط النظام”. تحوَّل هذا الشعار لازمة أساسية في حركة الثائرين العرب في بلدانهم المختلفة، انطلاقًا من التجربتين التونسية والمصرية. وما لبث أن تحوَّل أيضًا لازمة في النكات الجديدة والحملات، من طراز “الرجل يريد إسقاط المدام” أو غيرها. كأن الإرادة هي بالضبط المفهوم الناقص أو الكلمة الغائبة عن تفكير الشعوب العربية، فبات استخدامها في النكات أيضًا دليلاً على محوريتها ومحورية البنية اللغوية التي سمحت بإعادة استدخال هذه المفردة في جملة من مبتدأ وخبر، حيث الخبر أيضًا جملة فعلية تحيي فعل الإرادة. لكن، خلف جدة الإرادة، يطرح الشعار أسئلة فوق ما يرد عليه. “الشعب”، من هو، وفي أي مكان اجتمع، ومتى اختار ممثليه في الساحة أو الميدان؟ أي كيف تمظهرت له إرادة؟ ولئن شاء إسقاط النظام، لا الحاكم فحسب، فلا شك أن هذا “الشعب” كان ذا مفهوم ما عن “النظام”، فأي مفهوم هو هذا؟ ثم كيف كان لهذا الشعب أن يحوِّل إرادته فعلاً؟ هذه الأسئلة يتجاهلها غالبًا المعلِّقون السياسيون المنشغلون بتبعات الحدث على التوازنات والتحالفات الدولية، أكثر مما هم منشغلون بأولئك الناس الذين خرجوا من بيوتهم غير آمنين والذين يتم اختزالهم، سلبًا أم إيجابًا، إلى توصيفات اجتماعية اقتصادية، كأن ما حدث كان قدرًا مقدَّرًا لا مفاجأة فيه ولا حرية!.
في الثامن عشر من شباط الفائت، نشر الفيلسوف الفرنسي ألان باديو، في صحيفة “لوموند” مقالة بعنوان تونس، مصر: حين تكنس ريح الشرق غرور الغرب، حاول فيها إجابةً عن عدد من هذه الأسئلة، وبالذات عن سؤال “الشعب” ووجوده. بالطبع، لا يزال تطرُّف باديو اليساري حاضرًا في ثنايا النص، وبالتحديد في استشرافه حلمًا بالخلاص من الدولة واستهجانه كل قول يدعو إلى ضرورتها. لكن باديو يشدد على دعوة المثقفين الغربيين إلى التتلمذ على شعبي تونس ومصر، بدل محاولة تلقينهما ألفباء الديموقراطية الغربية، المزمنة المرض منذ ثلاثين عامًا بحسبه. ذلك أن هذين الشعبين إنما يقدمان دليلاً عمليًا على إمكان تفعيل المبادئ السياسية، والعمل في سياسة المدينة بما هي شأن عام لا يُختزل في “إدارة” الأعمال الجارية، والثورة بدل المطالبة، والقطيعة بدل “الانتقال المنظَّم” (من ينظِّمه؟). من يثور؟ الشعب بالطبع. والشعب هذا حين يثور إنما يعيش “حدثًا”، أي تفجُّرًا لاحتمالات الممكن، وإنشاءً لزمن جديد. الثورة حدث، بمعنى أنها نهاية زمن وبداية آخر، وبمعنى أنها لا تنسج على منوال سابق ولا تشير إلى احتمال معلوم سلفًا، بل هي تحديدًا تفتح أفقًا جديدًا لا يحمل إلا المفاجآت. كما يقول باديو: “لا ينشئ الحدث حقيقة جديدة، بل ثريًا من الممكنات الجديدة”.
في خضم الثورة، يوجد الشعب. قد يجوز القول، متابعة لباديو، إن الشعب يتألف ممَّن يثورون. يوجد بعد أن لم يكن. فباديو يعرِّف الشعب بأنه ذاك الذي، إبان الحدث، يردُّ على التحديات التي يطرحها هذا الأخير، وذلك من دون لجوء إلى الدولة. وإلا كيف يمكن أن نفسِّر أن بضعة آلاف، أو بضعة عشرات من الآلاف، في ميدان التحرير، يصيرون “الشعب”، من دون تفويض الملايين أو اقتراعهم؟ تعريف الشعب إذًا، هو ذاك الذي يردُّ على تحديات الحدث، التي تبدو من الخارج مستعصية (الفتنة الدينية، العلاقات بين الجنسين في الميدان، تأمين الغذاء والدواء والحراسة… إلخ في الميدان نفسه وفي ظل القمع والترهيب). لأجل ذلك، على هؤلاء الذين ينشئون الشعب ويكونونه، أن يكونوا في الوقت عينه الإنسانية جمعاء، فئات المجتمع كلها بقدرتها على التضامن والخلق. إضافة إلى العزم والشجاعة، فإن هذه القدرة الخلاَّقة هي الدليل، بحسب باديو، على أن شعبًا يوجد ههنا.
قد نضيف إن هذه القدرة على الخلق، كما على المرح، هي بالضبط ما شهدناه في تونس ومصر، وهي أيضًا، في تقديري، الفارق بين الحشد والشعب. فالحشد، غاضبًا أو حزينًا أو منتفضًا، ليس خلاقًا، بل هو ما يعيد إنتاج مثالات سابقة، وهو لا يجيب عن مشكلات حدثه بل يتكل على جهاز خارجي، سواء من الدولة أو من تنظيم حزبي. الحشد يعلن نفسه مسبقًا، ويمكن تقدير مساره والتفاوض مع قادته المعلنين، أما الشعب فهو ما لا يكشف عن نفسه، بل يتكشف لنفسه، منشئًا في الآن عينه قياداته ومسيره ومشكلاته وحلوله. على ما رأى بعض المدونين المصريين في إبان ثورتهم المستمرة، فإن الثورة هي استيلاء الخيال على الواقع، والتشبث لحظةً فلحظة بمزيد من الخيال وبمزيد من احتمالات الممكن. هي أيضاً ثَمَلٌ. على هذا القياس، كم مرة كان اللبنانيون شعبًا؟
ولئن كان الحشد ممثلاً لجهة معلومة، فإن منشئي الشعب لا يمثِّلونه بل يكونونه. وفي كونهم كذلك، هم الإنسانية كلها، أي هم يصنعون مجالاً يكون فيه لكل فرد رأي متساوٍ في الحق في الاحترام والتعبير (هل كان دانتون أو روبسبيير أو مارات أو وائل غنيم أو حتى لينين معروفين قبل ثورتهم نفسها؟). لهذا على الأرجح، كانت الثورات ذات قيمة عالمية فورًا، من حيث كونها تأكيدًا لقدرة البشر على صنع مثل هذين التضامن الخلاَّق والاحترام المتبادل (وعلى رفض الدولة، يضيف باديو). لهذا كانت تنتشر، لا بالعدوى على ما قد يحسب البعض، بل، كما ينقل باديو عن جان ماري غليز، بالتردد المشترك résonnance على ما قد يقال في وترين يهتزَّان معًا لنقر واحدهما.
الشعب يريد الدولة
غير أن حماسة باديو، ككل حماسة، قد تكون مصمَّة معمية. فباديو عينه يلاحظ أهمية المكان الرمزي الذي يتعرف فيه الشعب نفسه ويتكشف فيه لنفسه، ولذا كان من الضروري الدفاع عن ميدان التحرير، ولو بعشرات الشهداء، بدل التبعثر في تكتيك الشوارع غير المنتظرة. وهو يلاحظ إذاك نشوء الشعب لوقت غير محدد، منهمكًا في مجابهة تحديات الحدث. بيد أن غير المحدد ليس غير متناهٍ في طبيعة الحال، ولا يسع الشعب أن يظل في الميدان أو في الساحة أبدًا. من السذاجة حسبان أن قدرة الشعب على تخطي تحديات الحدث وتجاوز التناقضات التي كان النظام يستديمها، قد تعني قدرته على الاستمرار أبدًا في الحال المباشرة للقضايا من دون تفويض ومن دون تأسيس لأجهزة مختصة ومستقلة، أي من دون إقامة دولة.
والحق أن باديو يراكم ههنا الأخطاء، بدءًا بتناقض فلسفي شهير لدى دولوز يقول إن الحدث لا يحدث، أي أنه بلا زمن يحدث فيه، فهو ما ينشئ الزمن الجديد، واقعًا بالتالي ما بين زمنين، لا في أحدهما، ومن الخطل الظن بإمكان أن يقيم الشعب في الحدث دومًا، ما دام هدف الحدث الذي لا يحدث إنما هو إنشاء زمن آخر، مفعم بالممكنات لا شك، إلا أنه يبدأ بتحقيقها شيئًا فشيئًا. الخطأ الآخر في النظر بالضبط إلى مطالب الشعب. صحيح ربما أن المصريين ركَّزوا على الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، لا على الديموقراطية التمثيلية التي ينتقدها باديو، أي أنهم ركَّزوا على الفحوى لا على الشكل، إلا أن أحدًا منهم لم يرفع شعارًا بإسقاط الدولة، بل بإسقاط النظام. التمييز هنا ليس سياسيًا فحسب، بل تأسيسي، بخاصة في بلد توظف الدولة فيه ملايين الأشخاص. لم يعد لمجتمع حديث ألا يطالب بإقامة دولة. تجاوز الدولة في ظل قيام دول مجاورة فاعلة وعدوانية، إنما هو انتحار شعبي، فضلاً عن كونه نكوصًا عن أقصى ما بلغته هذه المجتمعات حتى هذه الساعة، في مجال الفاعلية والتضامن الشامل، وذلك مستمر إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً أو يصبح مفهوم الاتحاد، سواء على النمط الأوروبي أو الأميركي قبله أو أنماط أخرى قد تلي، سبيلاً إلى تجاوز الدولة بمفهومها الحالي، إلى ما يتخطاه لا إلى ما يتراجع عنه!.
إلى ذلك الحين، تبدَّى أن النظام الحاكم هو الذي حاول إسقاط الدولة، وربما في بعض الدول هو نجح إلى الآن في فعل ذلك، مستبدلاً إياها بميليشيات خاصة أو عامة و/أو بتشابكات قبلية، عشائرية، مناطقية، تتماسك قبتها ببناء مافيوي نفعي. أما الشعب في تونس ومصر فكان يثور لإحداث تغيير في دولته، لا لإلغائها. أي أن هدف الثورات على الأرجح أن يتسنى للناس أن يصيروا مواطنين، أفرادًا وأحرارًا. ليس من قبيل العبث أن أحد أول بيانات المجلس العسكري الأعلى في مصر كان لتأكيد أن كرامة الوطن لا تعني إلا جماع كرامة أفراده فردًا فردًا، وهو فهم للكرامة كان “الملحق” منذ سنوات يحتضن مطالبات مشابهة به، ردًّا على اساءة استغلال مفهوم الكرامة في السياسة.
لذا أيضًا، لم يكن من قبيل العبث، في مصر مثلاً، أن تحريك جمر الفتنة، التي لم يتخلص المجتمع منها، كان رد فعل مباشرًا على ابتكار المصريين لمسيرة جديدة في تاريخهم بعد حدثين ضخمين (إسقاط الرئيس، وإسقاط ملفات جهاز أمن الدولة). فالفتنة، تعريفًا، تقع بين جماعات، أي أنها تعيد إدراج من يسعون إلى المواطنة في شبكات الجماعة أو الطائفة. وبدل أن تكون الدولة الأفق الذي يضمن المواطنة تصير اللاعب بالفتنة ضبطًا وإشعالاً!.
لذا كان باديو مخطئًا أيضًا حين سخر من أن يراد لهذه الثورات أن تطرح على الناس الخيار بين محمد البرادعي وعمر سليمان، مثلما هي الخيارات في الحياة السياسية الفرنسية الفقيرة في نظره. فأن يكون للأفراد ترف الخيار بين فلان وعلان، بدل القائد الضروري والمعلم الملهم والرفيق الباقي إلى حين الانتقال إلى رفيق أعلى بل وأبعد، إنما هو حلم جدير بالثورة لأجله. فحين يكون هذا الخيار متاحًا، يصير دليل ترف لأن المجتمعات لم تعد تطرح أسئلتها في صورة البحث عن “قيادات تاريخية” بل في صورة من يندرج في تقاطع المصادفة (لا الضرورة) والمحاسبة. بذلك تكون باتت تتحدث إلى الزمن الحاضر، لا إلى التاريخ، أزله أو أبده، وباتت تتمسك بإرادتها وتبحث عن سبل لتثبيت فاعلية هذه الإرادة بمعزل عن الثورة المستمرة: أي من خلال الدساتير والقوانين. هذا التثبيت، في المجال الرمزي الناظم للمجتمع، ضروري، وهو الجواب الوحيد، إلى الآن، عن الرغبة في الحفاظ على مكتسبات لحظة الثورة المسكرة.
أيُّ نظام لأيِّ سقوط؟
يشير باديو إلى أن النصر الأول للشعب إنما هو في قول الجمع الجامع لتناقضاته والمتجاوز لها: “أنت، هناك، ارحل”. وهذا نصر محتوم يؤول لا محالة إلى فرار ذاك الشخص المشار إليه. هل هذا الفرار كافٍ لإسقاط النظام؟ مبكرًا عرف التونسيون والمصريون أن رحيل الحاكم شرط ضروري، غير أنه ليس بكافٍ. ضروري لأن الحاكم نقطة تقاطع لشبكات سلطة كثيرة ورمزها، فما إن يختفي حتى تبدأ الشبكات بالتهاوي كقبَّة فقدت واسطة عقدها، وتنهار سلطتها الرمزية فتسعى إلى الفرار أو إلى الانقلاب بعضها على بعض. غير أنه غير كافٍ لأن النظام لا يقوم فقط على شخص، ولا على الشبكات المرتبطة به، بل هو نظام حياة وسلطة عليها ولغة لتعقلها ومخيلة لفعل السياسة فيها. أيضًا، ليس عبثًا أن يقوم شبَّان 25 يناير وشاباته بتنظيف ميدان التحرير بأنفسهم، بعد الثورة، أو أن يصير القول برفض الرشوة أو التحايل على القانون صنوًا للقول بالثورة والفخر بها! إسقاط النظام يعني إسقاط ثقافة كاملة، لا شبكات فساد فحسب، أوصلت الأشخاص إلى درك اللاخبز واللاحرية واللاعدالة اجتماعية، بل محض خوف وطمع وانهيار نفسي وأخلاقي (الكذب، الرشوة، التحرش، التزلف… إلخ). لذا أيضًا كان حرص الشعبين على استمرار الثورة، سواء تفجر ذلك في مسائل كبرى كرئاسة الوزراء أو في سلسلة الاعتصامات الصغرى في المصانع والمؤسسات، بل المدارس الابتدائية!.
ذلك أن السلطة، على ما أوضح فوكو (إرادة المعرفة مثلاً)، تحلُّ في كل علاقات القوة وتشكِّل نظامًا لا مركز مستقرًا له، بل قاعدته التي يرتكز عليها هي الناس أنفسهم الذين تضغط عليهم علاقات القوة هذه كما تندفع الكرة نحو الأرض كي ترتفع عاليًا بعد ذاك. في مثل هذا النظام، ينبغي تحرير قمة الهرم كي تعاود علاقات القوة تبدل تشكيلها وتبحث عن توازن موقت جديد، على ما تشهد سلسلة الاعتصامات الصغرى في مصر مثلاً.
في وجه سلطة لا مركز لها (فحتى الرئيس هو موضع تقاطع علاقات القوة ليس إلا)، لا تكفي الثورة ضد فرد، وإن كان هذا الفرد، للمفارقة، يلعب دور الموحد للشعب ضده. على الثورة أن تكون، وقبل أن تكشف عن اسمها، انقلابًا في علاقات القوة داخل المجتمع نفسه. نجاح الثورة يأتي، كما أثبتت ثورتا تونس ومصر، من تراكم التغييرات في علاقات القوة (التحصل شيئًا فشيئًا على المزيد من حرية الإعلام وحرية التواصل عبر الإنترنت، فضلاً عن تراكم خبرات المجموعات المختلفة التي قاومت النظام موضعيًا كالقضاة والمدوِّنين وفلول الأحزاب الصغيرة أو المتقهقرة، ومداومي الاعتصامات المهنية أو السياسية… إلخ). هذه التغييرات ليست آلية بالطبع، فلا تنضج الثورة كما ينضج الربيع الثمر، بل هي حصيلة “تدخل البشر الذي يشكل قيم الأشياء ومعانيها” (امبرتو إيكو، حرب الزائف)، وحصيلة الجزء من الحرية الذي لا يمكن فصل الإنسان عنه، حريته في أن يفاجئ نفسه والآخرين. حيث إن علاقات القوة مبثوثة في المجتمع، فإن تراكم التغييرات فيها يعني في الضرورة أن تكون التغييرات أيضًا مبثوثة في نقاط مقاومة في المجتمع، وإلا كنا أمام انقلاب عسكري، لا أمام ثورة شعبية. أي أن الثورة تأتي حين تتضافر جهود موضعية وتتشابك من دون “تشميل”، أي من دون تأطيرها في حزب أو شخص يحولها مشروعًا شاملاً ومباشرًا، مثلما حذَّر دولوز من قبل في حواره المشهور مع فوكو.
تشبيك من دون تشميل، انبثاث المقاومة في ثنايا المجتمع، تضافر خبرات الصمود وتراكم التغييرات في علاقات القوة، ذلك كله في كل مرة فريد وغير مسبوق. كي يثمر ذلك كله في النهاية، عليه، بحسب إيكو أيضًا، أن يحصل في المجال الرمزي، لا المجال المادي فحسب. اقتحام الباستيل، إسقاط بن علي، معركة الميدان… إلخ، أعمال ذات مشهدية عالية تكون، بحسب تحليل إيكو، الضربة الرمزية التي تكشف انهيار المنظومة الرمزية السابقة، بخاصة علاقتها بالقمع والخوف، وذلك بعد أن يكون هذا الانهيار قد حصل بالفعل: الضربة الرمزية حركة مسرحية، حتى وإن كانت مفاجئة للجميع بمن فيهم من يقوم بها.
لئن كان خطاب السلطة، بحسب فوكو، الخطاب الذي يولِّد خطأ متلقيه وتذنيبه، فإن فضح هذا الخطاب ورفض الشعور بالذنب (من رفض الأب أو كبير العائلة مثلاً) شرط للتحرر منه. فالمجال الرمزي الذي يتم الصراع بامتياز على أرضه هو في طبيعة الحال اللغة. لذا تميزت الثورات بابتكار لغتها وشعاراتها (dégage، ارحل، الشعب يريد اسقاط النظام… إلخ) التي لا تشبه في شيء الشعارات المعتمدة سابقًا. الثورة هي أيضًا حركة مسرحية في داخل اللغة، تحرير إمكان استخدام اللغة لنقد الرئاسة أو لكشف الفساد ومنحها القدرة على إعادة شحن الكلمات بالمعاني (عدالة اجتماعية) أو إضفاء معنى جديد عليها (الكرامة كما ذكرنا عن فهم المجلس العسكري الأعلى لها). لذا يسعنا أن نستبشر بأن ثورتي مصر وتونس ستعيدان صوغ الخطاب العربي السائد، والمستهلك منذ نحو نصف قرن، وتنشئان معجمًا جديدًا بدل مفردات الاعتدال والممانعة والجهاد والفتنة الممجوجة، وتمنحان معاني جديدة لكلمات مثل “العروبة” و”العمل العربي المشترك” و”الوطن”، مثلما بدأتا بتغيير معاني الكرامة والشعب والإرادة.
ما العمل حتى ذلك الحين في بلاد لم تشهد بعد تراكمًا كافيًا في نقاط مقاومة موضعية مختلفة كي تتضافر من دون تشميل فتنجز انقلاب علاقات القوة قبل أن تندفع إلى الشارع أو الساحة أو الميدان منشئة شعبها الذي هو الإنسانية جمعاء والفئات كلها؟ ربما يظل لنا الأدب كعملية خلاَّقة ومبدعة، يسع العلماء والمهندسين والفنانين إلى الكتَّاب ابتكارها، عملية تلعب بالكلمات ومعها، على ما يقول بارت في درسه الأول في الكوليج دو فرانس. ذلك أن الأدب أو الكتابة، بهذا المعنى، عملية تخلخل سلطة اللغة السائدة، كما أنها تخلق الكلمات التي سيجتمع حولها، غدًا، الخطاب الجديد، أي الكلمات التي ستشكل تكريس الزمن الجديد وتثبيت مكتسبات الثورة في المجال الرمزي الناظم للمجتمع، أي الدستور والقوانين، وأيضًا اللغة الإعلامية والثقافية العامة. يظل لنا الأدب أولاً في وصفه عملية فرح ونداء للشعب الذي سيأتي.
النهار