الشعب يطالب بإسقاط النظام وليس تغيير الدستور
خالد الدخيل *
لم يكن قليلاً أن تتولى مصر باسم المجموعة العربية، تقديمَ قرار الجامعة العربية للجمعية العامة للمنظمة الدولية من أجل التصويت عليه الخميس الماضي. كانت مصر قد دخلت مع سورية عام 1958 في أول وحدة بين نظامين سياسيين عربيين في العصر الحديث، وكلا البلدين كانا يتشاطران الطرح القومي العربي في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. في سورية كانت هناك الصيغة البعثية، وفي مصر كانت الصيغة الناصرية، وأكثر ما يميز إحداهما عن الأخرى آنذاك هو ترتيب مفردات الشعار «وحدة حرية اشتراكية». وقوف مندوب مصر على منصة الجمعية العامة ليقدم القرار العربي للمجتمع الدولي، يشير إلى حجم المياه التي مرت من تحت جسر العروبة، كما كانت عليه في تلك المرحلة. العالم العربي يغادر ذلك الزمن، ليس خروجاً على العروبة، كما يقول المستفيدون من النظام السوري، وإنما لتحرير هذه العروبة من ربقة الاستبداد.
النظام السوري نفسه بكل ممانعته، أرغمته الثورة التي يصفها بأنها مؤامرة، على الخروج -ولو شكلياً- من ذلك الزمن. الفرق بين ديباجة دستور سورية الحالي وبين «مشروع الدستور الجديد» يكشف ذلك. تبدأ ديباجة الدستور الحالي هكذا: «لقد كان حزب البعث العربي الاشتراكي أول حركة في الوطن العربي أعطت الوحدة العربية محتواها الثوري الصحيح، وربطت بين النضال القومي والنضال الاشتراكي.» وانسجاماً مع ذلك، تنص المادة الأولى من الدستور نفسه على أن «الجمهورية العربية السورية دولة ديموقراطية شعبية واشتراكية… وهي عضو في اتحاد الجمهوريات العربية». في ديباجة مشروع الدستور الجديد غابت صفتا «الديموقراطية الشعبية والاشتراكية»، واختفت العضوية في اتحاد الجمهوريات عن اسم الدولة، وبقي التركيز الواضح على الصفة العربية والانتماء العربي للدولة وللشعب. وتمشياً مع ذلك، نصت المادة الأولى على أن «الجمهورية العربية السورية دولة ديموقراطية (كذا) ذات سيادة، غير قابلة للتجزئة…. وهي جزء من الوطن العربي». نص المادة الثامنة الشهيرة في الدستور الحالي، الذي يضع حزب البعث في موقع قيادة المجتمع والدولة معاً، حلّ محله نص يقول بأن النظام السياسي للدولة «يقوم على مبدأ التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة ديموقراطياً عبر الاقتراع».
هل يعكس الدستور الجديد إذن استجابة لمطالب الثورة؟ ديباجة الدستور الجديد تجيب على ذلك بالنفي القاطع، حيث تقول بأنه «منذ مطلع القرن الحادي والعشرين واجهت سورية، شعباً ومؤسسات، تحديَ التطوير والتحديث في ظروف إقليمية ودولية صعبة استهدفت السيادة الوطنية، مما شكل الدافع لإنجاز هذا الدستور كأساس لتعزيز دولة القانون». لاحِظْ جملتَيْ «منذ مطلع القرن الحادي والعشرين» و «مما شكل الدافع لإنجاز هذا الدستور»، فالأولى تشير إلى عام 2000، الذي ورث فيه الرئيس بشار الأسد الحكم عن والده، وتشير الثانية إلى أن الدستور الجديد ما هو إلا استجابة لتحدي ظروف إقليمية ودولية استهدفت السيادة الوطنية. بعبارة أخرى، الدستور الجديد ليس استجابة لتطلعات الشعب وطموحاته، بقدر ما أنه محاولة لتفادي الضغوط الإقليمية والدولية.
حتى ما قبل نشر الدستور الجديد، كان الرئيس بشار لا يتوقف عن القول بأن تأخر الإصلاح في عهده يعود بشكل رئيس إلى الغزو الأميركي للعراق، والحربين الإسرائيليتين على لبنان وغزة، أي إلى الضغوط الإقليمية والدولية، ثم فجأة صارت هذه الضغوط هي الدافع الأهم وراء كتابة الدستور الجديد.
بغض النظر عن ذلك، هل يمثل الدستور الجديد خطوة إصلاحية حقا؟ وهل هي خطوة متأخرة؟ ليس هناك إجابة على هذا السؤال أفضل مما قاله بشار الأسد نفسه في حديثه المطول لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، والذي نُشر في 31 كانون الثاني (يناير) 2011. آنذاك، كان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد هرب، على خلفية الثورة الشعبية، وكان الرئيس المصري حسني مبارك يصارع ثورة مماثلة، ولم يكن قد تنحَّى بعد. سُئل الرئيس السوري عن رأيه في ما يحدث لتونس ومصر، وكانت إجابته بالنص: «إذا لم تر حاجة للإصلاح قبل ما حصل في مصر وتونس، فإن الوقت صار متأخراً جداً لعمل أي إصلاح». وهذا كلام صحيح ودقيق جداً، لكن الرئيس الأسد لم يكن يتحدث للشعب السوري، ولا للأمة العربية التي يعتبر نظامه ينتمي إليها، بل كان يتحدث للدول الغربية، وللرأي العام الغربي، لأنه إذا كان هذا الكلام صحيحاً في حالة ثورتين لم تتعرضا لحل أمني شرس وبشع، مثلما يحصل في سورية، ولم يستمر الرئيس في أي منهما أكثر من شهر قبل التنحي أمام زخم الثورة، فإنه الكلام الأصح والأدق في حالة الدستور السوري الجديد، الذي يأتي وسط أبشع حملة أمنية يتعرض لها شعب على يد حكومته. وإذا كان الرئيس السوري صادقاً في حديثه للصحيفة الأميركية، فلماذا لم يلتزم بكلامه الصحيح والدقيق جداً عندما واجه نظامه الثورة؟ لكن الرئيس لا يعترف بهذه الثورة، ويعتبرها مؤامرة. وتمشياً مع كلام الرئيس، لا يعترف الدستور الجديد بالثورة، ويعتبرها مؤامرة أيضاً. لمن هذا الدستور إذن؟ هو للرئيس، ولنظامه السياسي، كما كان عليه حال الدستور عام 1971، والتعديلات التي أدخلت عليه، وآخرها تعديل سن رئيس الجمهورية حتى يتناسب مع سن الرئيس بشار بعد وفاة والده حافظ الأسد. لم يُكتب الدستور الجديد للشعب السوري، مثله في ذلك مثل القديم.
لا يضيف الدستور الجديد كثيراً الى ما كانت عليه نصوص الدستور الحالي (القديم). المحك الحقيقي في التطبيق وليس في النصوص. الدستور القديم ينص مثلاً، كما الجديد، على كثير من الحريات والحقوق: حرية الرأي، والديموقراطية، وحق الانتخاب، والمساواة بين المواطنين، وحرمة المنازل… إلخ. لكن لم يتم الالتزام بأي من تلك النصوص من قبل النظام السياسي الحاكم. ما يؤكد أن الدساتير العربية ليست أكثر من حبر على ورق، ولا يتذكرها المسؤولون العرب إلا حين يتحدثون للصحافة الأجنبية، وربما في المحادثات مع مسؤولي الدول الغربية. وإذا كان النظام السوري جمهورياً، ويأخذ بمبدأ الديموقراطية منذ 1971، حسب الدستور القديم، والقانون هو أساس الحكم، والمواطنون متساوون أمام هذا القانون، فلماذا بقي الحكم في أسرة واحدة لأكثر من أربعين سنة؟ وإذا كان الدستور القديم يكفل حرية التعبير، فلماذا كانت الحال ولا تزال، أنه إذا ما تجرأ أحد المواطنين على ممارسة هذه الحرية يقوده ذلك إلى غياهب السجون والتعذيب؟ وإذا كان الدستور الجديد لا يختلف كثيرا عن الدستور القديم، فمن الذي يضمن ألاّ يتعامل النظام السياسي مع الدستور الجديد مثلما تعامل مع الدستور القديم؟
لكن أسوأ ما في الدستور الجديد أنه صدر على يد النظام نفسه، وبالآلية نفسها، وفي غياب كل الضمانات، تماماً كما كان عليه حال الدستور القديم. كيف يكون الدستور جديداً ومحل اطمئنان وثقة، وقد صدر على يد النظام السياسي القديم نفسه، وفي ظل حملة أمنية بشعة ضد شعب يفترض أن الدستور آلية حمايته المقدسة؟ لم تكن المشكلة، لا قبل الثورة ولا بعدها، مع الدستور، كانت المشكلة ولا تزال مع النظام السياسي، الذي استخدم الدستور غطاء لاستبداده، وانتهاكاته لحقوق المواطنين. من هنا يطالب الناس بإسقاط النظام، وليس بتغيير الدستور.
وبالعودة إلى تصويت الجمعية العامة، تعكس النتائج مدى عزلة النظام السوري عربياً ودولياً. لم تكن من بين الدول التي صوتت ضد القرار دولة عربية واحدة. دولتان عربيتان فقط امتنعتا عن التصويت، وهما الجزائر ولبنان. كان عدد الدول التي صوتت لصالح القرار 137 دولة، والتي صوتت ضده 12 دولة، من بينها سورية نفسها، وامتنعت عن التصويت 17 دولة. الدستور الجديد لم يقنع أحداً خارج سورية. الإعلام السوري يتفادى في تغطيته الموضوع الحديث عن التصويت، ويركز على تصريحات المسؤولين الروس. ما يعني أن صدور الدستور الجديد، وقبله قانون الإعلام الجديد، لم يغير شيئاً في السياسة الإعلامية للنظام. ماذا يقول ذلك عن مصير الدستور الجديد؟ بل ومصير النظام نفسه؟
* كاتب وأكاديمي سعودي
الحياة