الشّعب السّوريّ: لعنة الأصول: علي جازو
علي جازو *
لم يدَّخر السّوريون مناسبةً، منذ بدء الثورة، إلا ملأوها تذكيراً ومديحاً لـ «مكوّنات الشّعب السّوري»، سواء عادت المكوّنات إلى أصول قومية: عرب وكرد وأشور وأرمن، أو دينية وطائفية: مسلمون ومسيحيون/ سنّة وشيعة وعلويون. ترافقَ المديحُ الثوريّ مع «اعتزازٍ»، أشدَّ ابتذالاً، والاعتزاز مصطلح فنيّ فخريّ متهرّئ غير بعيد من قاموس البعث، بنسيج الشعب السوري، وبه ما به من غنى وعراقةٍ وفرادةٍ وتحضّر!
لعلّ الدافع الذي شجّع وحمل المحتجين على الخروج بعشرات ومئات الآلاف، إنما انعقد على أمل أن يجد هذا المديح واقعاً يؤيّده ويثبته فلا يبقى معلَّقاً في الهواء من دون سند. وإذْ جاءت الثورة السورية في بداياتها السلمية مؤكدة وحدة الشعب ووقوفه ضد النظام الحاكم، فقد تبعتها في الأشهر الأخيرة وقائع مؤسفة وانكماشات أهلية مناطقية – أمنية، تعود في جزء منها إلى التشتت والتنافس المقيت اللذين رافقا تكوّنَ هيئات المعارضة في الخارج والكتائب المسلحة في الداخل، فأسقطتْ التنوع الممدوح إلى فخ التمزق المستهجن.
ولا يكفي القول، على رغم صوابه، إن وحشية النظام ومستوى العنف المرعب، قد جرّا السوريين إلى ما صاروا إليه. يبدو أن المستوى الأعمق من اللاوعي السوري، وهو محلُّ كبت وقمع، يلامس ويتلاقى في جوهره مع فكرة مكوّنات (أديان وأعراق) صافية نقية، وأنّ ما يناهز 95 سنة من عمر الدولة السورية لم يكن سوى تجميع قسري واعتباطي لهؤلاء وأولئك، لـ «نحن» و «أنتم» و «هم». فإذا كان «الإخوان» المسلمون في جوهر تنظيمهم مسلمين «سنّة» قبل أن يكونوا سوريين تعايشوا وتعارفوا لعقود طويلة مع «الإخوة المسيحيين»، وإذا كان «العلويون» أبناء أقلية طائفية مقموعة وتخشى قمعاً لاحقاً، وإذا كان للأكراد تاريخ كردي ولغة كردية كما لغيرهم من عرب سوريين ذوي تاريخ مجيد، فقد بدا في المحصلة أن فكرة المكونات، والأقليات إزاء الغالبيات، والأديان الشمولية مقابل الأديان المنكفئة، إنما هي عامل تقسيم وتمزيق، لا توحيد وتجميع.
على هذا النحو تميل مكوّنات الشعب السوري «الهجين»، غير العمليّة، إلى تشكيل كانتونات «أصيلة»، لكنْ مفيدة! المكونات «الوطنية»، على أصالتها العريقة، ما هي سوى بذور سريعة النمو لتفقيس دويلات تابعة لدول خارجية صار الداخل السوري جزءاً من سياستها وطموحها، إنْ في حماية نفسها من عدوى التفكك السورية، أو في استثمار التفكك وترسيخ دعمه كي يصير جزءاً ملحقاً، ضعيفاً وملبيّاً، كحال غزة بالنسبة لـ «إخوانها» في مصر، أو حزب الله بالنسبة لـ «ولاته» في إيران.
جزء غير قليل من فشل السوريين متعلق بأصولهم «الغريزية» التي لم تجد ما يشبعها فظلت جائعة وفقيرة ومتربّصة، يخشى بعضها بعضاً، وها هي تحت ضربات التدمير والإفقار والتجويع والتهجير، تعضّ على الجسد «الوطني» أو ما تبقى منه، لتكوّن أجساد دويلات هشة هزيلة ستظل تتسول الدول الإقليمة سنوات طويلة حتى يغدو التسول ضرباً قسريّاً من سبل معيشة تأمل الحفاظ على الحياة في حدها الأدنى.
من يتابع التغير الديموغرافي الهائل الذي طاول الجغرافية السورية، مع تبدل نفسيّ أعمق وأخطر، داخل المدن والبلدات، يلاحظ أنها قد قُطِّعَتْ ومُزِّقَتْ إلى إقطاعات شبه أميرية، ناهيك عن الذين فرّوا إلى البلدان المجاورة ويعانون الذلَّ والاستغلال من أصدقائهم قبل أعدائهم. تنهض المكونات على فكرة النقاء العرقي أو الديني، ويحمل مضمونها اللغوي فعالية مناقضة لأدائها المطلبي والسياسي، ولما كانت سورية بلداً هجيناً ذا سطح ناتئ وعكر، صار من الواجب تنقية هذه الهجنة ببتر النتوءات، على أيدي أبناء الأصول وأحفادهم، حتى تستوي ملساء، وسلخ هذا السطح البشع حتى الوصول إلى عمق أعماق اللب النقي، فتعود الوجوه إلى ينابيعها صافية، بلا ملامح تبعث على الشكِّ في أي أصل. تقسيم سورية شفاءٌ لها من الهجنة، وتنظيفٌ لبشرتها من النتواءات البشعة. ليس كالدّم سبيلاً أوحد نحو سجن الصّفاء المرغوب.
* كاتب سوري
الحياة