الشِّعْــر شُعَـــراء
صلاح بوسريف
هذه العبارة لأدونيس. وهي تعبير عن حقيقة معرفية، لا يمكن تفاديها. ليس ثمة شاعراً واحداً يمكنه أن يكون هو كُلّ الشِّعر، أو يَتِمُّ اختزال الشِّعر، بتنوُّعَاتِه، واختلافاته، في شاعر دون آخر، ولا في أُمَّة دون أخرى، أو في زمن دون غيره.
الشِّعر، هو انتقال من أفق إلى أفق آخر، كما أنه صيرورة، وتحوُّل، وليس استعادةً أو تكراراً، كما كانت تحاول السلفيات، أو الأصوليات الشِّعرية أن تُوهِمَ القاريء، بأنه ‘ ليس في الإمكان أبْدَع مما كان ‘.
ليس شعر امريء القيس أفضل ولا أهم من شعر طرفة بن العبد، وليس شعر المتنبي، أهم ولا أفضل من شعر أبي تمام، ولا من شعر غيره من الشُّعراء الذين جاؤوا بعده. فكما فتح امرؤ القيس طريقاً في الشِّعر، كذلك فعل طرفةَ، وهو نفس ما فعله المتنبي، وأبو تمام. كل شاعر كان يحرص على أن يكتبَ نَفْسَه، وأن تكون تجربتَه خاصةً به هو، بما تعنيه من جُرْح شخصي، ومن سعي حثيتٍ، لقول ما لم يُقَلْ من قبل.
حين نقرأ الشِّعر العربي، بمنطق المفاضلة والتمييز، فنحن نقتل الشِّعر، ونُجْهِز على تنوُّعاته واختلافاته، هذه الفُسيفساء التي هي نوع من الصَّرْح الذي يَصْعُب اختزالُه في شاعر، أو مجموعة من الشُّعراء، أو في زمن دون آخر.
الشعر، هو هذه الوفرة من التجارب، والكتابات التي جاءتنا من ماضي الشِّعر، ومن ماضي الخيال العربي، وهو هذه الوفرة من التجارب والكتابات التي ما تزال تخرج للوجود، بما تقترحه من أشكال، ومن تخييلات وأفكار. ليس مقبولاً حصر الشِّعر في الشجرة، والنظر إلى الغابة باعتبارها شَجَرَةً فقط، فهذا عَماء، ونوع من البَلَه المعرفي والجمالي اللذان لم يَعُد مسموحاً بهما، في زمن تَشَعَّبَتْ فيه المعارف، وأصبح فيه الشِّعر نفسه، كثير الدَّوالِّ والمعارف، لا يمكن حصر دَوَالِّه ومعارفه، في النقاش السخيف والمُبْتَذَل، حول الوزن و’النثر’، أو في شكل دون شكل. كون الشِّعر، خصوصاً، في تجاربه الراهنة، تجاوز النقد بكثير، وهو مُتَجَدِّد باستمرار، في غفلة من النقد، ومن المؤسسات الأكاديمية التي لا تُدْرِك الجِدَّةَ والخَلْقَ والطرافةَ، والابْتِداع، إلا بعد تكريسهما من قبل الذوق العام، أو من قبل الكتابات التي، غالباً، ما يتحمَّل الشُّعراء نفسهم عِبْئَها، ما دام النقد لم يخرج بعد من أدواته القديمة، التي كانت ربما صالحةً لتجارب سابقة، ولأشكال، كانت دَوَالُّها معزولة، ومحدودة، لا يمكن لمن يقرأ الشِّعر، ويعرف بعض آليات اشتغاله، أن يُخْطِئَها.
لا يمكن غَضُّ النظر عن الشُّعراء المُتَمَيِّزين، مِمَّن استمدُّوا تَمَيُّزَهُم، من طبيعة تجاربهم التي كانت فارقَةً في الشِّعر، أي باعتبارها توقيعاتٍ لافِتَة، و خاصة، تلك التي تستولي على القاريء، وتفرض نفسَها عليه. فهذا النوع من التجارب، هو ما يكون إضافةً، وحافزاً لفهم ما يَحْدُثُ في الشِّعر من انتقال، ومن تحوُّل، وهو شعرٌ، غالباً ما يكون مبنياً على معرفة بالشِّعر، وبمفهوم القيمة في الشِّعر، وليس شيئاً يحدث بالصُّدْفَة.
فالمعري، في كتابه ‘معجز أحمد’، حين اختار أن يقرأ شعر المتنبي، فهو كان يختبر تجارب عصره هو، التي كانت عرَفَت تراجعاً، قياساً بما تركه المتنبي خلفَه من نقد، وحتى من تشكيك في قيمة تجربته. فالمعري أراد أن يستعيدَ المتنبي، في زمنه، ليفضح ما قد حدث في الشِّعر من تكرار، مما لا يقبله الشِّعر، كون الشِّعر، إمَّا أن يكون ابْتِداعاً وخروجاً، أو لا يكون. ولعل في تجربة المعري نفسها، ما يفضح هذا المعنى، و يشي، بالتالي، بخروجه هو الآخر، عن سياق زمنه، الذي كان اسْتَبَدَ به التكرار، في معرفته، وفي شعره، وفي استبداد السلفية الفكرية، التي انتقدَها المعري في لزومياته.
الشِّعر شُعراء، بالابتداع، والإضافة، والخروج عن المألوف والعادي، وهو جُهْدٌ، وخبرةٌ، تكتسي تميُّزَها من طبيعة الجُرأة التي فيها، ومن طبيعة الشِّعر نفسه، حين نفهمه باعتباره انقلاباً، لا استقراراً واستعادةً، أو بَعْثاً، كما ذهب إليه شوقي وأصدقاؤه من شعراء ‘النهضة’!.
القدس العربي