صفحات الرأي

الصراع بالدِّين .. وليس على الدين


محمد السمّاك

عندما تنبأ الكاتب الفرنسي أندريه مالرو مستشار الرئيس شارل ديغول – في الستينات من القرن الماضي أن القرن الواحد والعشرين سوف يكون دينياً أو لا يكون، لم يصدقه الكثيرون. في ذلك الوقت كان الدين في المجتمعات الأوروبية لا يزال واقعاً بين مطرقة الحداثة وسندان العلمنة. ولذلك بدا الحديث عن استعادة الدين لدوره في الحياة السياسية والاجتماعية حديث وهم وهرطقة. ولقد تعرضت نظرية مالرو الى الكثير من الانتقادات الحادة التي لم ترحم صاحبها. ولم تشفع له دراساته الفلسفية الحديثة الا بالقليل من المهادنة، ولم تمنحه علاقاته بالرئيس ديغول الا القليل من الاسباب التخفيفية.

الا ان العقد الأول من القرن الواحد والعشرين أثبت كم كان مالرو محقاً، وكم كان بعيد النظر في قراءته لمسار الحركة السياسية العقدية في المجتمعات المختلفة. وهي القراءة التي صاغها فيما بعد، أي في مطلع القرن الحالي، المفكر الأميركي صموئيل هانتغتون في نظرية صراع الحضارات.

لقد سقط الاتحاد السوفياتي تحت ضربات حركتين دينيتين من دون تنسيق بينهما. الحركة الاسلامية في أفغانستان، وحركة الكنيسة الكاثوليكية في بولندة. وكانت الولايات المتحدة تدعم الحركتين وتساعدهما، ليس إيماناً بالاسلام ولا بالكاثوليكية ولكن لتوجيه ضربة قاضية الى النظام الشيوعي في عقر داره. حتى اذا نجحت المهمة، تحولت الحركتان الى قوتين مؤثرتين في صناعة عالم القرن الواحد والعشرين، أي عالم بعد الشيوعية.

حاولت الولايات المتحدة توجيه قوة اندفاع الحركتين الى عمق الاتحاد الروسي. فانفجرت الاضطرابات الاستقلالية في دول القوقاز وبخاصة في الشيشان. كما انفجرت اضطرابات مماثلة في جورجيا وفي دول البلطيق الكاثوليكية الثلاث التي تمكنت من انتزاع استقلالاتها.

ثم وقعت سلسلة الصراعات السياسية على خلفية دينية في البلقان، وكان آخرها في كوسوفا. ولذلك لم يكن مفاجئاً، في الوقت الذي تتحول فيه اسرائيل الى دولة دينية يهودية، أن تقفز جماعات اسلامية الى مقعد قيادة حركة التغيير التي عصفت ولا تزال تعصف بالعديد من الدول العربية. ولذلك أيضاً لم يكن مفاجئاً أن يبدي الاتحاد الروسي قلقه منها وشكوكه في أهدافها وتطلعاتها. فموسكو لم تتمكن من مهادنة حركة التغيير في الشيشان الا بالقمع العسكري. ولم تتمكن من تدجين دول القوقاز الاخرى الا بالتخويف من أن تتعرض هي الأخرى لمثل ما تعرضت له مدن الشيشان من تدمير.

حاولت الولايات المتحدة أن تجعل من الشيشان أفغانستان ثانية، ولكن الكرملين الروسي أثبت انه غير الكرملين السوفياتي. والفارق بين الاثنين هو موقع ودور الكنيسة الارثوذكسية التي استعادت دورها المؤثر في صناعة القرار الروسي. وقد ذهبت الكنيسة الى حد مطالبة الكرملين بالعمل على حماية مسيحيي الشرق الارثوذكس مما يتعرضون له من مخاطر على حد وصفها. وهي الدعوة التي تغطي الموقف الروسي من الأحداث الدموية في سورية. صحيح ان لهذا الموقف حسابات ومصالح استراتيجية أمنية وسياسية وعسكرية مختلفة، الا ان البعد الديني لم يعد خارج دائرة الاهتمام ولا حتى مجرد بُعدٍ ثانوي.

تعيد هذه التطورات الى الأذهان كيف تعاملت الدول الكبرى في القرن التاسع عشر مع ما كان يسمى بـ”المسألة الشرقية”. اذ تولت كل دولة حماية جماعة دينية من الجماعات المكونة لشعوب المنطقة. فتولت روسيا حماية المسيحيين الارثوذكس، وتولت النمسا هنغاريا حماية المسيحيين الكاثوليك، وتولت فرنسا حماية المسيحيين الموارنة. ومنحت بريطانيا نفسها سلطة حماية الدروز ومن ثم صناعة وطن ليهود جرى استقدامهم من الخارج. أما المسلمون فقد بقوا تحت رحمة الامبراطورية العثمانية التي كانت في حالة احتضار وموت سريري.

حدث ذلك في الوقت الذي كانت فرنسا تعلن “موت الدين” من خلال تبني نظام العلمنة الكاملة. اي انها في الوقت الذي كانت تضطهد الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية وتصفيها وتمنعها من التدخل في الشأن العام، كانت تطرح نفسها حامية للكنيسة في لبنان والشرق!!

أما ما يحدث الآن في الاتحاد الروسي تحديداً، فانه يعكس تلازماً بين انتعاش الكنيسة الأرثوذكسية الوطنية من جديد وبين موقف الكرملين من “المسألة الشرقية”!!.

لم يطلب مسيحيو الشرق من أي من هذه الدول الغربية الكبرى حمايتهم. ولكن الحماية فرضت عليهم كمدخل الى طاولة اقتسام تركة “الرجل المريض”. ولو لم يدرك مسلمو الشرق هذه الحقيقة لما قامت للعلاقات الوطنية بين المسلمين والمسيحيين قائمة.

فالمسيحيون لعبوا فيما بعد دوراً رائداً في حركة التحرر من الاستعمار، ثم في حركة المقاومة ضد الصهيونية. وقاومت الأديرة عملية “تتريك” اللغة العربية، وهي لغة القرآن الكريم من خلال وضع وطبع المؤلفات اللغوية والأدبية التي أثرت الثقافة العربية. والرهان اليوم هو على استمرار هذا الدور رغم تصاعد موجات التخويف من المد الاسلامي الذي يصور على انه بدأ يأكل الأخضر واليابس من الآمال التي نبتت مع إطلالة الربيع العربي!!

تخشى أوروبا مما تتصوره تمدداً اسلامياً في مجتمعاتها. فالمسلمون اليوم يشكلون أربعة بالمائة من عدد السكان، أي نحو 40 مليوناً. وهذا التمدد ادى الى تضخم مشاعر الاسلاموفوبيا، أي كراهية الاسلام عن جهل به. ولقد بدأت هذه المشاعر تلعب دوراً أساسياً في صناعة القرار الأوروبي من أوضاع الشرق ومن مسار الأحداث التي تتوالى عليه، وذلك في اتجاهين مختلفين. الاتجاه الأول تضخيم قلق مسيحيي الشرق والعمل على تحويله الى خوف ديني على المستقبل والمصير.. اما الاتجاه الثاني فهو الاستناد الى مشاعر الاسلاموفوبيا اساساً للتحرك في اتجاه مساعدة مسيحيي الشرق أو الادعاء بمساعدتهم. والسلبيتان لا تصنعان ايجابية. بمعنى انهما لا تحلان اشكالية مشاعر كراهية الاسلام في الغرب، ولا اشكالية مشاعر القلق من صعود الاسلاميين في الشرق.

ولكن اذا كان سلوك بعض الدول الكبرى كالاتحاد الروسي مثلاً، لا يعكس التعلم من تجربة “أخطاء المسألة الشرقية” في القرن التاسع عشر، فان سلوك مسيحيي الشرق يعكس وعياً قوياً لها، رغم المعاناة التي تعرضوا لها في العراق تحديداً والى حد أقل في مصر.

وقد جسد هذا الوعي السينودس من أجل مسيحيي الشرق الذي دعا اليه وترأسه البابا بنديكتوس السادس عشر الذي سوف يزور لبنان في منتصف سبتمبر أيلول المقبل لإعلان وثيقة “الارشاد الرسولي” حول هذه القضية الهامة. وتؤكد الوثيقة على الانتماء القومي لمسيحيي الشرق مع شعوب المنطقة وعلى تكاملهم معها ؛ كما تؤكد على احترام حقوقهم في المواطنة وكذلك على احترام حقوقهم الدينية، وهما أمران جوهريان لا تنكرهما أي من الحركات الاسلامية، بل أن بعض هذه الحركات يؤكد عليها وعلى الالتزام بهما أخلاقياً ووطنياً ودينياً على حد سواء.

ان نظرية عودة الدين الى الحياة العامة حسب رؤية الكاتب الفرنسي الراحل مالرو لا تتجسد في الشرق الأوسط فقط. ولكنها تكاد لا تغيب عن أي منطقة اخرى في العالم. حتى في الولايات المتحدة، تلعب هذه العودة دوراً أساسياً الآن في معركة الانتخابات الرئاسية. أما في أوروبا فتكفي الاشارة الى ان الفريق الوطني البرتغالي لكرة القدم اتخذ “الصليب” شعاراً رسمه على ملابس لاعبيه خلال دورة بطولة أوروبا.

يبقى التأكيد على أمر اساسي وجوهري، وهو ان المشكلة ليست في عودة الدين الى الحياة العامة، بل ان المشكلة كل المشكلة تكمن في استغلال الدين في الحياة العامة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى