صفحات العالم

الصراع على الدولة أو التحول إلى دول


غازي دحمان

تجاوزت الأحداث في سورية حالة الصراع على السلطة لتنتقل إلى حالة الصراع على الدولة ذاتها، ويعزز هذا الواقع إصرار أنصار النظام على فكرة ” الأسد أو لا أحد ” مقابل تبني المعارضة فكرة إسقاط النظام مهما كلف الأمر. وكل ذلك في ظل عجز الطرفين عن تحقيق هدفهما، ما يجعل مجريات الصراع تتدحرج رويدا بإتجاه الصراع على فكرة الدولة وماهيتها وطبيعتها وواقعها .

ولعل المتابع لتطورات الحدث السوري يلاحظ أن الصراع لم يعد يهتم بحدود الصلاحيات التي تتمتع بها السلطة، أو الرهان على شعبيتها أو شرعيتها ودستوريتها، وإنما تجاوز ذلك ليطال وظيفة الدولة بحد ذاتها ومدى قدرتها على التمثيل الوطني لمختلف أطياف الشعب السوري .

ويمكن ملاحظة الإنقسام، بين الجماعة السورية، على الدولة بشكل واضح وجلي، عبر الإنقسام حول القيم الأساسية التي تنضوي تحتها هذه الجماعة، بوصفها كانت تشكل الحد الأدنى من التفاهم بين مكونات الجماعة، فثمة قطيعة بين القيم التي تأسست عليها السلطة ” الدولة” في الأربعين عاماً الماضية وبين السلوك والمآلات السياسية الحالية، ما يضع شرطاً جديداً يدعم فكرة الإنفصال في الوعي، غير أن ما يزيد من حال غموض الواقع السورية، حتى اللحظة، أن تعيين خطوط الإنقسام غير ممكنة، ذلك على إعتبار أن هذه الخطوط الضبابية ترتسم داخل مكونات الجماعة السورية، بعناصرها المناطقية والعرقية والطائفية، وقد يشكل ذلك مرحلة أولى تسبق مرحلة التبلور النهائي .

وإذا كان من المعروف في الفكر السياسي الكلاسيكي أن من شروط ديمومة الدولة وجود قاعدة إجتماعية محددة، تكون السلطةعلى أساسها شرعية ومقبولة، فإنها في الحالة السورية، وكواحدة من نتائج الثورة، فقدت السلطة، المتماهية مع الدولة، هذه الميزة وباتت سلطة قامعة ومفروضة. ويكمن السبب في ذلك بأن الدولة لم تعد قادرة على تنظيم التنافس بين القوى المختلفة، ما يعني أن حال الإستقرار التي سادت على مدار عقود قد جرى إختراقها بسبب الإخلال بالتوازن بين قوى المجتمع ” ومكوناته ” وذلك عبر محاولة قوى بعينها الإخلال بهذ التوازن لصالحها، ما أدى بدوره إلى اهتزاز الإستقرار الإجتماعي ورفض الفئة المتضررة تجديد ولائها للدولة ” النظام ” .

وثمة سبب آخر، يتعلق بطبيعة بناء الدولة السورية ذاتها، إذ من المعروف أنه وعلى مدار أربعة عقود من الحكم المنفرد، جرى تشكيل الدولة بطريقة تمكّن الحاكم من الإستحواذ عليها، عبر تصميم وهندسة مؤسسات الدولة المختلفة على أسس تضمن تحكّم رأس النظام بكل مدخلاتها ومخرجاتها، وبحيث تؤدي وظيفة واحدة وهي تأبيد سلطة الحاكم، وقد جرى في سبيل ذلك ربط مؤسسات الدولة بشخص الرئيس وجعلها تدور في فضائه السلطوي .

وفي سبيل إنجاز هذه المهمة، خلق الأسد الأب لهذه المؤسسات مجالاً محدداً تدور فيه فعالياتها وتتمحور حولها جميع نشاطاتها، وتم إخراجها من وصفها مؤسسات تنموية خدمية أو دفاعية، إلى مؤسسات تعمل على إنتاج حالة من الهيمنة والخضوع وتجيير مواردها لتدعيم هذ العملية، ووصل الأمر، في ذروة سيطرته على الدولة ومؤسساتها، أنه بات قادراً على تفعيل هذا النمط من الدولة في المجالات التي يريدها وتعطيلها في مجالات أخرى، من دون أي مسوغ منطقي .

وقد أدت هذه العملية، مع الزمن، إلى وجود نمط من الدولة يصعب فصله عن السلطة، وعزلت هذه الدولة نفسها عن كل التعبيرات السياسية، رافضة دمجها في أهدافها، لتلغي بذلك جدل النظام والحركة بوصفه التجسيد العملي للعملية السياسية، وباتت الدولة معزولة عن المجتمع الذي تدعي تمثيله. وهذا ربما يشكل مكمن الخطر في الحدث السوري، ذلك أن سقوط النظام ” السلطة “غير ممكن من دون سقوط الدولة التي أنتجها، وبالتالي سقوط سورية بشكلها الحالي .

وربما ما يساعد على تجسيد هذا الخطر حقيقة عدم وجود تراث دولتي مهم في سورية، ذلك أن عملية التنمية السياسية في هذا لبلد لم تكن ذات قيمة، وقد شهدت إنحرافات خطيرة على يد العسكر والفئات السياسية المتعاقبة. وأمام أزمة كبيرة بهذا الحجم لم تجد البلاد ما ينجدها من تراث الدولة، بل على العكس فإن المسار السياسي في سورية قد جرى تأسيسه من جملة من العناصر المنفرة لوجودالدولة.

وواقع الحال، لن ينقذ سوريا من هذه الأزمة سوى إتفاق مكوناتها المختلفة، عبر نخبها وزعاماتها السياسية والإجتماعية، على بقاء سوريا الدولة بشكلها الحالي، من خلال عقد جديد يحفظ للجميع حقوقهم ويضمن عدم إقصاء أي مكون، بشفافية، وإبتعاد عن التكاذب، فالملك عار تحت ضوء الشمس.. وإلا فإن البلاد تسير حثيثاً بإتجاه دول متصارعة ومتنافرة على طريقة البلقان في تسعينات القرن الماضي.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى