الصراع على الشرق السوري/ حسين عبد العزيز
صراع الحدود
لعبة المحاور
حافة الهاوية
دخل الصراع العسكري السوري مرحلة مختلفة كليا عن المراحل السابقة، لجهة المساحات الجغرافية الجديدة، ولجهة القوى المتصارعة بشكل مباشر هذه المرة (الولايات المتحدة، المعارضة السورية / النظام، الفصائل الدائرة في الفلك الإيراني، روسيا، تنظيم الدولة الإسلامية).
ملامح المعركة بدأت منذ فترة وبلغة أميركية واضحة لتحقيق هدفين معلنين: أولهما يتمثل في منع تنظيم الدولة الإسلامية من الانتشار في الصحراء السورية مع اقتراب معركة دير الزور، والثاني منع إيران من اختراق طرفي الحدود السورية/العراقية.
أخذت المعركة بعدا آخر بعد القصف الأميركي لرتل عسكري تابع لإيران -عند منطقة الحشمي قرب مفرق الزرقا- كان متوجها نحو التنف، الأمر الذي أحدث استنفارا كبيرا من دمشق وطهران، وأطلق معركة الحدود والمحاور الصحراوية بشكل واضح وصريح.
صراع الحدود
بدأت واشنطن أول إجراءاتها على الأرض منذ نحو شهرين عندما أغلقت بالتعاون مع البشمركة معبر ربيعة الحدودي في محافظة نينوى، وتحولت مدينة ربيعة إلى تجمع عسكري للقوات الأميركية والبشمركة لمنع قوات الحشد الشعبي من الاقتراب من هذه المنطقة من الناحية العراقية.
كما تم قطع الطريق أمام أية محاولة لعبور الأراضي السورية من جهة الحسكة، بعدما لاحت في الأفق تفاهمات بين الحشد وحزب العمال الكردستانيفي شنغال، ومحاولة الطرفين الحصول على حصة جغرافية من الحدود.
وإلى الجنوب؛ أحكمت الولايات المتحدة مع فصائل المعارضة السيطرة على منطقة التنف عند المثلث السوري/العراقي/الأردني، قاطعة المعبر الإستراتيجي بين سوريا والعراق أمام الطموحات الإيرانية.
لكن بين معبر ربيعة العراقي ومقابله السوري اليعربية في الشمال، وبين التنف في الجنوب؛ تمتد الحدود السورية مع العراق عبر محافظات الحسكة ودير الزور ثم حمص.
وباستثناء معبر القائم/البوكمال الخاضع لسيطرة “تنظيم الدولة الإسلامية”؛ لا توجد معابر رئيسية في هذا الشريط الحدودي، ولذلك عمدت طهران ودمشق -في لعبة تبادل الأدوار- إلى محاولة فتح ثغرات في الجدار الحدودي:
هناك ثلاث نقاط حدودية يسعى الحشد الشعبي إلى اختراقها ضمن الشريط الممتد من غرب محافظة نينوى إلى القائم في محافظة الأنبار.
المشكلة في هذا الشريط لا تكمن في الجانب العراقي وإنما في سوريا، حيث ينقسم الشريط الحدودي بين محافظتيْ الحسكة ودير الزور، وفي الأولى تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وفي الثانية يسيطر “تنظيم الدولة الإسلامية”.
وليس معلوما إلى الآن كيف يمكن لقوات الحشد اختراق الحدود، فمن ناحية الحسكة سيتطلب الأمر تفاهما مع “قسد” بعيدا عن الولايات المتحدة، وهذا أمر بالغ الخطورة لكون “قسد” لا يمكنها تحمل العداء الأميركي، لذلك هددت بمواجهة أية محاولة من الحشد لعبور الأراضي السورية، وهي رسالة تلقفها الحشد فأعلن قبل أيام أنه لا ينوي دخول هذه الأراضي.
أما من ناحية محافظة دير الزور فإن طريق القائم/البوكمال مغلق بسبب الفيتو الأميركي، وقد حاول الحشد قبل أسبوعين اختراق هذا المعبر فتلقى ضربة عسكرية من الولايات المتحدة التي تضع نصب أعينها مدينة البوكمال كهدف مقبل.
ولن يبقى أمام الحشد سوى النقطة الثالثة والأخيرة في المنطقة المقابلة لمدينة الميادين السورية، لكن مثل هذه المحاولة لن تحدث إلا بعد إطلاق معركة دير الزور فعليا، فالحشد لن يخاطر بتحمل خسائر كبيرة في هذه المعركة حيث الثقل الحقيقي لتنظيم الدولة في سوريا.
من الجهة السورية؛ يسعى النظام إلى البحث عن خيار آخر غير التنف بعدما أصبح حاجزا لا يمكن اختراقه، وفي ظل صعوبة الوصول إلى دير الزور في هذه المرحلة، يعمل النظام على اختراق الحدود شمال غرب التنف بنحو 60 كلم (منطقة صحراوية قاحلة)، لكن هذا الأمر يتطلب بداية تثبيت صراع المحاور داخل سوريا، ويتطلب ثانيا موافقة أميركية لا تزال مجهولة التحقق إلى الآن.
ويبدو أن محاولات النظام السوري للوصول إلى الحدود من هذه المنطقة ستكون صعبة، بعد إعلان “جيش مغاوير الثورة” إقامة قاعدة عسكرية بدعم أميركي في منطقة الزكف الواقعة شمال التنف على الطريق نحو البوكمال.
لعبة المحاور
الصراع على الشرق معقد ومتشابك، فالأمر لا يقتصر على المناطق الحدودية فقط وإنما يتعداها إلى العمق الجغرافي السوري، فالمعارك في جنوبي الرقة وريف حلب الشرقي وجنوب وشرق حمص والقلمون الشرقي وصحراء السويداء، هي جزء لا يتجزأ من الصراع على الحدود.
اكتشف الأميركيون ومعه فصائل المعارضة أن تثبيت السيطرة على الحدود مع العراق يتطلب الوصول إلى محافظة دير الزور وتحديدا البوكمال أولا، ويتطلب ثانيا الدخول في عمق البادية غربا لتشكيل محمية جغرافية عسكرية، في حين وجد محور دمشق/طهران/موسكو أن مواجهة الولايات المتحدة والفصائل يتطلب تأمين العمق الجغرافي الداخلي قبيل الانتقال إلى الحدود.
وهكذا نشأت لعبة المحاور العسكرية لكلا الطرفين، لكن هذه اللعبة تبدو أكثر وضوحا وتماسكا لدى المحور السوري/الإيراني مما هي عليه الأمر لدى الولايات المتحدة وفصائل المعارضة.
نجح النظام في تحقيق إنجازات ميدانية نتيجة هدنة المناطق الأربع التي تبين أن الروس استعجلوا فيها للحاق بالأميركيين في الشرق، وليس من أجل تهيئة المناخ لتحقيق السلام السوري.
وعليه فقد تمكن النظام من تشكيل سد عسكري يمتد من ريف حمص الجنوبي والشرقي إلى بادية السويداء، على امتداد القلمون الشرقي. وقد سمح هذا السد الجغرافي لقوات النظام بالانتقال إلى مرحلة ثانية تشمل ثلاث مناطق جغرافية:
ـ المنطقة المحيطة ببلدة القريتين في القلمون الشرقي جنوبي محافظة حمص.
ـ المنطقة المحيطة بتدمر، حيث تمت السيطرة على قصر الحلابات والمناطق الممتدة نحو القريتين، وهذه المنطقة مهمة لأنها تؤمن الطريق نحو السخنة البلدة التي تشكل أهمية إستراتيجية كبيرة لكونها بوابة النظام للدخول إلى محافظة دير الزور.
ـ المنطقة الصحراوية في السويداء، إذ سيطرت قوات النظام على منطقة الزلف ورحبة ومنقار رحبة.
ويسعى النظام إلى وصل هذه المناطق الثلاث ببعضها البعض قبل الانتقال إلى معركة دير الزور، وذلك من أجل تحقيق هدفين: الأول تقطيع أوصال فصائل المعارضة وتشتيتها بحيث لا تستطيع الاتجاه نحو الغرب، والثاني محاصرة فصائل المعارضة في منطقة التنف لقطع الطريق على أية محاولة أميركية بتوسيع رقعة سيطرتها الجغرافية.
وإذا كانت مخططات النظام واضحة في ريف حمص الشرقي، فإنها غير معروفة عند المثلث الجغرافي السوري/العراقي/الأردني، فهل ستذهب دمشق وطهران نحو مواجهة مباشرة مع واشنطن لجرها إلى الانخراط في المستنقع السوري؟ أم ستكتفيان بحصار الأميركيين وفصائل المعارضة في هذه المنطقة؟ وإلى أين سينتهي المخطط الأميركي الذي لا يزال غمضا إلى الآن؟
من المبكر الإجابة على هذه الأسئلة، لكن الواضح حاليا هو عدم وجود نية أميركية لمواجهة النظام عسكريا على الأرض بشكل مباشر، والانتصارات العسكرية التي حققها النظام مؤخرا على حساب المعارضة في جنوب حمص وبادية السويداء والقلمون الشرقي توحي بذلك.
ففي حين تسعى الفصائل إلى ممارسة ضغط عسكري على النظام غرب البادية باتجاه القلمون الشرقي، تركز الولايات المتحدة على معركة الحدود فقط.
لكن واشنطن قد تسمح للفصائل بإقامة نقاط جغرافية آمنة تكون بمثابة حواجز تقف في وجه النظام وإيران إذا ما قررا التوجه نحو التنف، وهذا ما حدث في منطقة السبع بيار، وما حدث مع إسقاط الفصائل لمقاتلة سورية في منطقة تل دكوة بريف دمشق الشرقي.
صحيح أن التحالف الأميركي مع فصائل المعارضة في هذه المنطقة سيكون نسخة مكررة عن التحالف الأميركي مع “قوات سوريا الديمقراطية” في الشمال، من ناحية التركيز على محاربة تنظيم الدولة، لكن الفصائل هنا تتحرك في بيئة معادية لها، في حين كانت “قسد” تتحرك في بيئة مسالمة، ولم يكن أمامها سوى عدو واحد هو تنظيم الدولة.
ولذلك زودت واشنطن فصائل المعارضة بأسلحة متطورة منها مضادات طيران، لحماية نفسها من هجمات النظام والقوات التابعة لإيران، ولمنحها القدرة على التحرك ضمن مساحات واسعة في شمال البادية وشرقها وجنوبها.
وكذلك للقيام بعمليات عسكرية دفاعية ضد قوات النظام وحلفائه ضمن محورين رئيسيين: شمالي يمتد من التنف نحو البوكمال، ويمكن أن يتطور ويتجه نحو الغرب عند السخنة، وجنوبي يصل التنف ببادية السويداء ثم درعا عند الحدود الأردنية.
حافة الهاوية
التطورات العسكرية في الشرق السوري تشير إلى وجود تفاهم أميركي/روسي مضمر حول تقاسم النفوذ بين محوريْ البلدين، وهذا الأمر بدا جليا مع توقف قوات النظام عن التقدم نحو قاعدة التنف أولا، ومع التزام واشنطن الصمت تجاه القصف الروسي الذي استهدف “جيش أسود الشرقية” أثناء تقدمه نحو حاجز ظاظا ومنطقة سبع بيار في البادية ثانيا.
ويبدو من مسار العمليات العسكرية أن الحدود السورية/العراقية داخل محافظة حمص ستكون من نصيب الولايات المتحدة وفصائل المعارضة، ويمنع عليها التوغل نحو الغرب حيث مناطق النظام، على أن يبقى الجنوب في درعا والجنوب الشرقي في السويداء متروكا إلى حين.
وليس معروفا ما هو مصير القوات التابعة لإيران هناك؟ وهل الحضور الروسي المتزايد في الجنوب مقدمة لإطلاق معركة كبرى للضغط على الأميركيين لتحصيل مكاسب في الشرق؟ أم أنها خطوة للحلول محل الطرف الإيراني؟
أما محافظة دير الزور فتبدو أصعب من أن يسيطر عليها طرف بمفرده، وأغلب الظن أن المحورين سيتقاسمان عبء قتال “تنظيم الدولة” ويتقاسمان تركته الجغرافية، وأيضا من دون الحضور الإيراني. وقد كشفت الأيام السابقة الحضور الروسي في محيط تدمر على حساب القوات التابعة لإيران.
حتى الآن، لا يزال التحرك العسكري الأميركي والروسي مدروسا وخاضعا للضوابط الميدانية، لكن موسكو وواشنطن تسيران على حافة الهاوية في ظل رفض إيران معلن لأية محاولة تبعدها عن الحدود، وإذا ما قامت إيران بكسر الخطوط الحمر الأميركية، فإن مرحلة جديدة من الصراع ستبدأ، وقد تضع القوات الأميركية والروسية وجها لوجه.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة
2017