صفحات العالم

الصراع على المشهد السوري/ ماجد كيالي

باتت صورة المشهد السوري اليوم تبعث على التأسّي والإحباط والقلق، ليس فقط بسبب مستوى القتل والتدمير الذي فاق كل التصورات، منذ عامين، ولا بسبب حال الإنكار لما يجري والتنكّر للضحايا، فهذه كانت منذ البدايات، أي منذ ثلاثين شهراً، وإنما هي كذلك، تحديداً، بسبب “اختفاء” المجتمع السوري، وتغييب السوريين، من الصورة، وبسبب أن الوعود والآمال التي أيقظتها وغذّتها الثورة السورية، لاسيما في عامها الأول، تكاد تختفي، أو تصبح من المستحيلات.

هكذا، وبعد ثلاثين شهراً، ماعادت الثورة هي ذاتها، فقد اختفى الشباب الذي اشعل الأمل في قلوب السوريين، ولم يعد غياث مطر ينظم التظاهرات السلمية، ويوزّع الماء والورود على الجنود في داريا، لقد اختفى أمثال غياث، أيضاً، مع اختفاء المئات من النشطاء من أمثاله، الذين ركز النظام على استهدافهم بالقتل والاعتقال والملاحقة والتشريد.

اليوم، أيضاً، ما عاد الشباب والشابات يخرجون في تظاهرات طيّارة في الحميدية أو سوق ساروجة أو الصالحية أو في ساحة عرنوس وفي القابون وبرزة وداريا والحجر والميدان في دمشق، او في الزبداني ودوما وقرى الغوطة الشرقية والغربية. كذلك لم تعد ساحات حماه وحمص ودير الزور وبانياس تشهد اعتصامات بمئات او عشرات الألوف، وأهالي قرى حوران لم يعودوا يخرجون في “فزعات” حاشدة من قرية الى قرية، أو باتجاه درعا. وماعدنا نرى دبكات الصبايا والشباب وحركاتهم الجماعية الايقاعية، التي ادهشتنا، كما ولم نعد نسمع الأهازيج، “ويللا ارحل يابشار”، فقد انتزعت حنجرة القاشوش، وباتت لافتات كفر نبل، الجميلة والذكية والنبيلة، تميل نحو السخرية السوداء، أكثر فأكثر، مع حلول الرايات السوداء، وحملة السلاح الملثمين أو الغريبين المقحمين في المشهد السوري لتوظيفات غريبة عن سوريا وشعبها.

حقاً، لقد اختلفت امور كثيرة، وباتت الكلمة اليوم للقذائف الصاروخية من البر ومن الجو، ولشبح الغاز الكيمياوي، ولزخّات الرصاص الغادر، بحيث احتل الخراب، الذي عمّ مدن السوريين العامرة حيّزاً كبيراً من الصورة، أو من المشهد السوري، الذي يصعب تحمله مع كل الدمار الذي حلّ في أحياء مدن حلب وحمص ودرعا ودوما وأحياء القابون وجوبر وداريا وبرزة في دمشق، والتي باتت تتجلى في مشاهد كارثية بحدّ ذاتها، كأننا في يوم “القيامة”، فكيف الحال مع تخيّل أن ثمة في كل بيت حكاية، او حكايات، لبشر من لحم ودم، لأطفال وشباب، لآباء وأمهات.

الأنكى أنه فوق صور الدمار هذه بات ثمة حيّز في المشهد السوري لصور أخرى، تظهر السوريين كمشردين، ونازحين داخل سوريا، وكلاجئين في حالة جدّ مؤسّية، في لبنان والأردن ومصر وتركيا، وهي صور باتت تحتل حيزها الخاص في الصورة، أيضا على حساب صورة الثورة، لاسيما مع مشاهد البؤس في مخيم الزعتري او مشاهد الموت في عباب البحر قرب شواطئ الاسكندرية.

لم يكتف النظام بكل ذلك، فدمار سوريا لا يكتمل عنده من دون تدمير معناها، ولذلك لابد من صناعة قصة، أو صناعة صورة، تساهم بدورها في قتل معنى الثورة السورية، وتشكك بصدق مقاصدها. وقد شهدنا أن النظام أسهم في صناعة الحرب الأهلية، بمعناها الضيق، واشتغل على ترويج قصة الحرب الدينية، الأمر الذي اسهم فيه، أيضاً، ظهور الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي لعب في بروزها، والنفخ فيها، أطراف عربية وإقليمية، مع شبهات تحيط بإدوار معينة للنظام الإيراني وللنظام السوري ذاته. وقد شهدنا، كيف تم تطعيم هذه الصورة بالحكايات المفبركة والمشينة عن ما يسمى “جهاد النكاح”، كأن السوريين المحاصرين والمعتّرين، لديهم حيّز لذلك، حتى انه عبر عن ذلك بوضاعة بعرضه الطفلة روان على الفضاء العام، من دون مراعاة حتى لأية معايير دينية أو أخلاقية، كما شهدنا القصص المتعلقة باقتحام معلولا، مع أن “آباء” معلولا تحدثوا عن روايات اخرى، تثير الشبهات بشأن دور النظام في كل ماحصل.

واضح من كل ذلك أن النظام يشتغل على الترويج لصورة معلولا وروان وابو صقار وجماعات القاعدة، التي خرج معظمها من سجونه ومن سجون المالكي، كي تحل محل صورة النشطاء من الشباب والشابات الذين اشعلوا الثورة، وشعلة الحرية، في قلوب السوريين، في شوارع دمشق ودرعا وحمص وحلب وحماه والدير واللاذقية.

هذا هو باختصار معنى الصراع على صورة الثورة، هذا ما اراده النظام منذ البداية، بعد أن اكتشف أن فكرة “سوريا الأسد” انتهت إلى الأبد، وإلى غير رجعة، مع اول تظاهرة اقتلعت الخوف من قلوب السوريين.

والقصد أن النظام اشتغل منذ البداية على حرف الصراع في سوريا، من كونه ثورة ضد الاستبداد الى كونه بمثابة حرب أهلية، وهو الذي عجّل في نقلها من حالة الصراع في سوريا إلى حالة الصراع على سوريا، باستدعائه إيران وحزب الله وميلشيات أبو الفضل العباس من العراق، وبتغطية من روسيا بوتين، التي استهواها الأمر، فلم يعد يعنيه من قصة معلولا مثلا، ومن ادعائه حماية “الاقليات”، سوى تعويم دوره كوكيل محلي في الحرب على الإرهاب، تماما مثلما لم تعد تعنيه ادعاءات الممانعة، والتوازن الاستراتيجي، بعد أن رضخ بطريقة وضيعة للمطالبة الدولية بتدمير سلاحه الكيماوي.

وقصارى القول، ففي الصراع على سوريا، باتت المعركة في جزء كبير منها على الصورة، إذ لم يعد المشهد يتألف من صورتين متقابلتين ومتصارعتين، على الحيز ذاته، وما كان يمكن ذلك، فالثورات تفجر كل شيء في المجتمعات، الجيد والسيء، الايجابي والسلبي، النبيل والحقير، وهذا أمر طبيعي، عرفته كل الثورات في التاريخ، لكن مشكلة الثورة السورية أنها عفوية أولاً، وأنها تفتقد للقيادة وللاجماعات الوطنية ثانيا، وأنها تواجه كل ذلك بثمن باهظ جدا، وفي ظل حال من الإنكار، وعدم التفهّم، لاسيما مع المداخلات الخارجية، المضرة والمخربة، والخبيثة، ثالثاً.

إذاً، الثورة تصارع اليوم على صورتها، ونبل مقاصدها، وهي تجاهد بتضحيات شعبها واصراره وصموده كي تحتل حيّزاً أكبر في المشهد، على حساب النظام، والقوى الأخرى الدخيلة والمتطفلة والعبثية، لكن ذلك ليس هيّناً، مع ضعف امكانياتها، ومع كل البطش الذي تواجهه، والتنكر الذي تتعرض له، في صراعها على ادراكات السوريين والعالم. حقاً لقد اختلطت الصورة، فلم تعد هي ذاتها، تلك الصورة المتخيّلة، أو الرومانسية، عن الثورات، المفعمة بالأمل، والتي تفتح على وعود الخلاص، وأحلام التغيير، لكن هكذا هي ثورات الحرية فهي بمثابة حالة تفجير بدائي أصلاً، مهما تغطت بالشعارات والأيدلوجيات.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى