“الصراع على سوريا”
د. بهجت قرني
يُشير هذا العنوان إلى أحد الكتب الكلاسيكية الذي ظهر منذ أكثر من نصف قرن، وبالدقة في سنة 1958، وأدى إلى شهرة كبيرة لمؤلفه البريطاني باتريك سيل، الذي كان مراسلاً صحفياً في منطقة الشرق الأوسط لصحيفة “الأوبزرفر” البريطانية الشهيرة. كان هدف “سيل” من عنوان كتابه هو شرح نمط السياسات العربية في هذه الفترة، والقول بأن سوريا تمثل مركز التنافس بين الأسرة السعودية والأسرة الهاشمية التي كانت تحكم خلال ذلك الوقت في كل من العراق والأردن، والتي فقدت الحكم في العراق عقب الانقلاب العسكري الذي حدث هناك سنة 1958، لكنها لا تزال في الحكم حتى الآن في الأردن.
ذاع صيت الكتاب، وكذلك مؤلفه، على أساس أن الكتاب أوجز جوهر السياسة العربية في ذلك الوقت، وأصبح ينظر إلى سيل باعتباره متخصصاً في الشأن السوري، بل تزوج بعد ذلك بشابة سورية من إحدى العائلات الشهيرة.
وبالرغم من تغير الأوقات، فإن الكثير من العارفين بالسياسة العربية يرجعون بذاكرتهم إلى هذا الكتاب عندما يرون الصراع الحالي بين الحكومة السورية والجامعة العربية، وذلك عقب قرار الجامعة يوم السبت الماضي، 12 نوفمبر، والقاضي بتجميد مشاركة الحكومة السورية في أعمال وأنشطة الجامعة حتى تجتمع اليوم، الأربعاء 16 نوفمبر، في المغرب لتؤكد قرارها المذكور أو لتعدله في اتجاه أو آخر، إن اقتضى أمر الوضع المتوتر في سوريا. وفي الواقع، فإن مثل هذا القرار كان غير متوقع بالنسبة للكثيرين، على أساس أن الجامعة، كما يدل اسمها الرسمي، جامعة الدول العربية، عادة ما تكون في صف الحكومات وليس الشعوب، لكن هذه المرة جاء قرارها ضد الحكومة السورية. ليس هذا فقط، ولكن بموافقة حاسمة من أغلبية كبيرة: 18 صوتاً، وامتناع العراق عن التصويت، بينما عارضت القرار دولتان فقط، هما اليمن ولبنان. وإذا كان اتجاه الحكومة اليمنية متوقعاً، على أساس أنها تخشى أن يأتي عليها الدور بعد ذلك، فإن موقف التصويت اللبناني لا يمكن شرحه إلا بالجوار الجغرافي لدمشق وتداعياته السياسية، حتى لو تم الإعلان عن تبريرات أخرى لهذا التصويت.
وكالعادة في مثل هذه الأزمات، فإن أطراف الخلاف الرئيسية تشرح نتيجة التصويت بطريقتها الخاصة، وهكذا تُصر دمشق على أن القرار الصادر عن الاجتماع الوزاري للجامعة ليس فقط غير قانوني، ولكنه كذلك يعكس “النفوذ الأميركي الصهيوني” داخل الجامعة ذاتها، وليس فقط في داخل بعض الدول الأعضاء. لا شك أن الأيام القادمة ستكشف الكثير عن ملابسات هذا التصويت وخفاياه، لكن الاستخلاص الأساسي في الوقت الراهن هو أن الجامعة، ومعها السياسات العربية، تدخل مرحلة جديدة لا عهد لها بها، ولنذكر في هذا الخصوص نقطتين على سبيل المثال:
الأولى أن الربيع العربي -كرمز لاحتجاجات الشارع- وصل حتى إلى أروقة الجامعة، هذه المؤسسة الإقليمية البيروقراطية العتيقة، مهما كانت دوافع كل دولة من الدول الـ18 التي صوتت في صالح القرار. وفي الواقع قد يؤدي هذا التصويت إلى عودة نوع من الثقة في المؤسسة الإقليمية، كما أنه لا يجعل هدف “الدفاع عن المدنيين” حكراً على “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) أو غيره من المؤسسات الأجنبية والدولية.
النقطة الثانية: أن الجامعة بهذا التصويت تنضم -ضمناً أو صراحة- إلى تبني المفهوم الجديد للسيادة الوطنية. وبدون الدخول في تفاصيل وتشعبات القانون الدولي وتداعياته على النظام العالمي، فإن المفهوم الجديد للسيادة الوطنية ظهر في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وذلك عن طريق إحدى لجان الأمم المتحدة بتمويل وقيادة كندية. وقد ارتكز على التشكيك في المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية، بما يتضمنه من احتكار داخلي ودائم للسلطة، أي أن الحكومة لها مطلق الحرية في التعامل مع الداخل، بما في ذلك -أحياناً- قتل مواطنيها. كما ارتكز المفهوم الجديد أو المعدل على أولوية حماية السكان المدنيين، وبالطبع يفتح هذا المفهوم المعدل الباب للتدخل الخارجي وإساءة استعماله من جانب بعض الدول الكبرى. ولكن مبدأ حماية المدنيين استقر الآن في المفهوم الدولي للسيادة.
وبالرغم من أن قرار الجامعة العربية الأخير يعكس هذا التحول الدولي في مفهوم السيادة الوطنية، أو ما يسمى باختصار “المسؤولية الإنسانية عن حماية المدنيين”، إلا أن الجامعة تستطيع بهذا القرار أيضاً أن تمنع التدخل المباشر من خارج المنطقة، وأن تحصره في “البيت العربي”، وأن تُقنن أحد المبادئ الدولية الهامة حالياً، حيث ما عاد باستطاعة أية حكومة التصرف على هواها وبدون قيود حيال أفراد شعبها وجماعاته، بل صارت الحكومات مجبرة على التحاور مع قوى المعارضة بدلاً من التصرف انطلاقاً من الهاجس الأمني وحده. لقد أصبح من الضروري عملياً التكيف مع الأوضاع الجديدة، لاسيما بعد خروج الكثيرين إلى الشارع للمطالبة والاحتجاج. وعلى هذا النحو يكون قرار الجامعة الأخير، إذا استمر تطبيقه بموضوعية ومشروعية قانونية، رادعاً لمفهوم الحكومة كمؤسسة أمنية بوليسية ليس إلا.
قرار الجامعة غير المتوقع يمثل مرحلة هامة في سياسات هذه المؤسسة وفي هيكل العلاقات العربية ذاته، بما في ذلك نمط تفاعل هذه العلاقات مع محيطها الإقليمي العالمي. وهكذا فإن عودة “الصراع على سوريا” -بالرغم من مرور أكثر من نصف قرن- قد يكون بداية لنظام عربي مختلف، أراد ذلك من أراده وعارضه من عارضه.
الاتحاد