الصمت” لمحمود الوهب بين صمت المتعبين وضجيج المتحضرين
جينا سلطان
يعتبر القاص محمود الوهب ابطال قصصه استطالات للذات السورية المنهكة بفعل الهزائم السياسية والعسكرية المتتالية. ذاتٌ مطوقة بمثلث الفقر والجهل والفساد، المستكمل بضمور العمل السياسي البناء. ذاتٌ صاغها القهر فغدت أشبه بعلامة استفهام كبيرة! ضمن هذا المنظور تغدو مجموعة القصص التي تحمل اسم “الصمت” عن “دار نون” 2012 استجابة إبداعية لآلام مخاض عسير يمهد لولادة الحي من الميت.
تختزل بداية المجموعة القصصية “حكاية تشبه المقدمة” حجم الألم واليأس الذي يحمله الكاتب، إذ تصور اغتيال صياد جاهل لرشقات الفرح التي تهبها الطبيعة لطائر جميل. هذا التقابل بين القاتل والقتيل ضمن تيمة البراعة الجاهلة والاكتمال الغافل، يختزل أزمة الصراع في العالم المحكوم بتداعيات التخلف والارتهان لوصاية الشكل الحضاري الأقوى عالميا.
في قصة “الصمت” نعاين شكلا مستوردا من الحضارة يتمثل في الضجيج الملتصق بتلوينات الحياة المعاصرة الذي يثقل الأذن ويرهق الروح، وخصوصاً الضجيج المتعلق بنشرات الأخبار، الذي ما إن يخترق خلايا الذهن حتى يحفر في الروح بؤر حزن لا تمحى. الهرب من هذا الضجيج لا يتحقق لبطل القصة عبد الراضي إلا بالموت. وإذا كان الضجيج سمة حضارية متأصلة في بنيان المجتمع، فإن البيروقراطية سمة أخرى، تتعقب ضحاياها حتى الفناء. فبطل قصة “البغل” موظف أحيل على التقاعد، وبدأ يحلم بطمأنينة الخلاص من ظلال رئيسه المتسلط الذي سمّاه الموظفون بالبغل لشدة تعنته. لكنه بدل ذلك، يحاصَر ببغل حقيقي أمام منزله، فلا يجد أمامه سوى حجر ضخم يُسقطه على رأسه، ليجد نفسه فوق ظهر البغل المنطلق في ركض عنيف، بينما صور تغزو مخيلته لم تكن لتخطر على باله من قبل قط!
في قصة “المهر الأبيض خميس” صداقة نادرة تربط بين مهر أصيل وبدوي خيّال، تطوّقها الغيرة والحسد من الأهل والمقربين لتنتهي عند خسة سيد القبيلة واستنتزافه للمهر أثناء غيبة صاحبه، في فلاحة الأرض إذلالا للاثنين معا. صورة تستكمل أبعادها في قصة “السيل” حين يجتمع غضب الطبيعة وجشع البشر ويتفقان على اذلال القروي البائس دياب المحمود وسلبه فضلة الحياة المتبقية. هذا النوع من القهر الممزوج بالعجز يتخذ في قصة “الحافلة” معنى الوجع الإنساني السقيم. فصورة الكهل الفقير وهو يفرغ كيس البقالة الهزيل على الأرض ليدوس بقدميه ما كان مشروع طعامه، هي منتهى الألم والقسوة في زمن بات مجبولا على التبلد والنكران. المفارقة أن الكهل حمل اسم أبو الخير ووشى مصيره بأن لا نصيب له في اسمه؛ فصاحب العمل استغنى عن خدماته مبكرا، وابنته لم تلق خاطبا لها، والحافلة المكتظة التي ركبها في يومه التعس لم تمنحه متعاطفاً يهمس في أذنه بكلمات العزاء البسيطة.
تعود قصة “رؤيا وتجليات” إلى زمن السبي الأميركي للعراق، وتحديدا الى عهد المؤتمر الأميركي/ العراقي الذي صادق على عبادة الأيقونة الأميركية بنكهتها المعهودة: الديموقراطية، حقوق الإنسان، محاربة الديكتاتورية، الإرهاب، وما استتبعها آنذاك من استفاضة حول النتائج العظيمة لـ”الفوضى الخلاقة”. فكان أن اختلطت الرؤيا بالنذر في حنايا صحافي عراقي مواكب للحدث السياسي. بدأت كلمات الشاعرة نازك الملائكة “إغضب أحبك غاضباً” تتصاعد من ذاكرته مختلطةً بأصداء تاريخٍ دامٍ دشّنه مراوغ رفع المصاحف على أسنّة الرماح. تاريخ غارق في سراديب الغبار والدماء والأوحال. تاريخ جعل القسوة غاية ودافعا للبقاء. قسوة تفوض الندم كي يكون شريك القهر، مما يعني أن انتفاضة الكرامة ستضع حدا لافتراءات الضجيج والفوضى، لتمنح الوقت البارد شحنات من النار.
يوظف الكاتب خبرته الواسعة في مجال العمل السياسي من أجل تعرية النفاق والرياء الذي يلفّ أروقة الأحزاب النضالية التي تُعلي شعارات العدالة الاجتماعية والمساواة، مما يجعل من قصة “الصفعة” ضربة قاسية لأعمالها الدعائية، وفضحا مقرونا بالألم لأساليب الانحدار بالكرامة الإنسانية نحو الدرك الأسفل. فالصفعة التي يتلقاها ممثل الأقلية ذو الأصول الكادحة، أثناء نقاش إيديولوجي من زميله المحامي ممثل الأغلبية، تلخص نوعية الانحطاط القيمي والانحراف المعياري عما يسمى مؤشرات النضال، ولاسيما حين تترجم الصفعة بالصمت من الرفاق الحاضرين والتجاهل التام المتلون باللامبالاة! قصة “أبو جبل” التي تمثل حكاية من الماضي هي أبلغ رد من الكاتب على الإهانة التي وجهتها قصة “الصفعة”. فالبطل هنا يحمل اسم أبو جبل، كناية عن التشبث بالموقف الأخلاقي المشرف حتى النهاية، الذي يترجم هنا بالتأبد في السجن رفضاً للوشاية بالرفاق.
قصة “الشجرة” تنعش في نفس القاص أمنية قديمة، مما يشحنها بعاطفية عالية مغلفة بطيات أسطورية جميلة، تسبغ على الحب إمكان وأد الفتن وبسط عباءة السلام فوق المتناحرين. فالشجرة كرمز للخير والعطاء، جبلت من دماء الأحبة، وانبسطت اغصانها جسورا تصل بين المتباعدين. لكن الرسالة تصل فقط للجسورين وليس للعابثين اللاهين كبطلة القصة، التي تمرح مع عاشقها حتى ترتوي، وحين يطلبها للزواج تنسحب باكية صامتة، لتغدو ومضة لم يقدر لها أن تتحول إلى نور.
تعكس قصة “حفيد ابن أبي سلمى” رعب الكهولة من الموت، وثقل الرغبات المستعرة التي تتنظر التحقق، وخفة الأمنيات الفرحة التي تلون سرعة الانقياد لدوامة الزمن. جدال الحياة مع الموت يضعنا أبدا أمام صيرورة عبثية ترتهن فيها المكتسبات بشرطية القبول.
يصدمنا اليأس المتسربل بأعطاف الكلمات في مجموعة “الصمت”، ملوِّناً أفقها بكآبة لم نعهدها في قصص محمود الوهب، إذ ألفناها منفتحة على الفرح والحس العالي بالجمال والفكاهة. لكنه يأس الأزمنة العصيبة، تمسحه يد حانية، وبسمة تتحدى الشقاء.