الصورة والحدث السوري: سؤال الصورة/ نديم جرجورة
بات الكلام مُكرَّراً: إنه زمن الصورة. من دونها، يستحيل العيش في عصر التكنولوجيات المتطوّرة. معها، يُصبح الواقع، ببؤسه وجماله معاً، أصدق وأفضل وأكثر حضوراً. لم يكن الحراك الشعبي العفوي والسلمي العربي المنطلق من تونس في نهاية العام 2010 بداية سطوة الصورة، بل كان امتداداً لهذه السطوة، وتفعيلاً أقوى لمدى انخراطها في الصراع السلميّ بين الناس والسلطات الحاكمة.
الصورة جزءٌ من الحراك هذا. مرآة له. عنوانٌ لسلوكه. عينٌ ترصد وقائعه وتُسجّلها، مانحة الآخرين فرصة المتابعة والاكتشاف والمعرفة، في ظلّ قمع سلطويّ يمنع، بشتّى الوسائل والأدوات، «خروج» الصورة من محليّتها إلى جغرافيا أوسع. المُصوّرون الجدد ليسوا صحافيين أو إعلاميين أو سينمائيين أو هواة، بل مواطنين عاديين لجأوا إلى الشارع لقول غضب، وإعلان مطلب بعدالة وحرية وكرامة وخبز. التزموا سلمية الحراك لقناعتهم بحقّهم في إعلان مطالبهم، والسعي إلى الحصول عليها سلميّاً. هؤلاء حملوا هواتفهم الخلوية، وصوّروا، ونقلوا إلى العالم صُوَراً قالت بعض الحراك وجمالية سلميّته. وعندما اشتدّ القمع، ونزفت الدماء، وسقط شهداء كثيرون، ظلّت العدسة المتواضعة (كاميرات مختلفة، إلى جانب أجهزة الهواتف المحمولة) عيناً ساهرة على بشاعة القتل والاغتيال والتدمير.
في ظلّ تنامي قوة البطش والخراب في سوريا اليوم، بعد اختراق أصوليين إسلاميين «جبهة» المعارضة السلميّة، وما حملته من إضافة حسّية لقسوة التدمير والقمع السلطويين؛ وفي ظلّ السجال الدولي حول احتمال اندلاع حرب أميركية ـ غربية في سوريا؛ يُمكن استعادة سؤال الصورة وعلاقتها بالحدث الراهن، انطلاقاً من اختبارين سابقين عرفتهما الجغرافيا العربية في حرب الخليج الثانية، واحتلال العراق.
الأسئلة المطروحة على سينمائيين عرب تناولت، باختصار شديد، علاقة الصورة بالحدث: كيف تنظر إلى علاقة الصورة بالحدث السوري، انطلاقاً من تجربة العامين ونصف العام، ومن التجارب العربية الأخرى (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، البحرين)؟ وكيف ترى «الصورة» في ظلّ الـ«حرب» الأميركية ـ الغربية على سوريا، إن وقعت: هل ستكون الحرب شبيهة بتلك التي شهدها العام 1990 بهدف تحرير الكويت (قيل يومها إنها حرب الصُوَر على شاشة الـ«سي. أن. أن.» تحديداً، بالإضافة إلى كونها حرباً عسكرية طبعاً)، أو أنها ستكون أقرب إلى الحرب الأميركية على العراق (2003)، عندما تمّ حجب الصورة والسيطرة عليها (أو محاولة السيطرة عليها) من قِبَل القيادة العسكرية الأميركية؟
الإجابات القليلة التي حصلتُ عليها كافية لإضاءات متناقضة على واقع الحال البصريّ. كافية لفتح نقاش نقدي يواكب حركة الصورة وعلاقتها بالواقع والوقائع، ويعاين مسارها التاريخي وسلوكها الإنساني والفني.
هيثم حقي:
إيقونات الثورة
منذ اليوم الأول للثورة السورية، كان واضحاً أن النظام الأمني اختار الردّ بعنف على ما اعتبره «مطالب مشروعة بالإصلاح». والسبب كالعادة أنه «لا أحد يجبره على الإصلاح، فهو يقرّر متى وكيف سيكون هذا الإصلاح». هو إصلاح موعود منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، لكن الظروف لم تسمح به. فقد كان النظام مشغولاً بأمور أهمّ. هكذا ركّز النظام في ردّه على التظاهرات الشعبية بشكل أساسي على منع نقل الوقائع، وقال كلمته الشهيرة: «أنا لا ألوم من يتظاهر، لكنّي ألوم من يصوّر المتظاهرين». هذا يعني منع وسائل الإعلام من دخول سوريا، وإحكام السيطرة على الكاميرات المحترِفة ومنعها من الاقتراب من الحدث الساخن ونقله إلى العالم. هكذا ظنّ النظام أنه أغلق سوريا على شهدائها ومعتقليها وتهديم مدنها وقراها، ولم يتخيّل أن هاتفاً نقّالاً أصغر من حجم كفّ طفل سيغيّر المعادلة. فمصر وتونس وليبيا واليمن التي سبقت سوريا بثوراتها، قامت بها تحت نظر كاميرات العالم وسمعها، وفي ظلّ النظام الجديد لسيطرة الصورة، وزخم قدرته على التأثير منذ حرب الخليج وغزو العراق، حيث كان النقل يومياً ومن مكان الحدث، في سابقة لم يعرف العالم لها شبيهاً. صحيح أن صُوَر المجازر الأميركية في فيتنام، نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات الفائتة، حرّكت ضمير البشرية لهولها آنذاك. لكن، منذ ذلك الزمن، سالت صُور ودماء كثيرة، وعلى الهواء مباشرة، جعلت العالم «يُتَمْسِح» بعد إغراقه بصُوَر المجازر في يوغسلافيا السابقة والشيشان وغيرهما، حتى أصبح منظر القتل والسحل والحرق والتدمير أمراً عادياً، بل أصبح العالم يكتفي بالأسف السلبي على ما يجري، حتّى لو كان في ما مضى يملأ الدنيا مظاهرات واحتجاجات على صُوَر ممارسات بشعة، أصبحت شبيهاتها اليوم لا تحرّك ساكناً.
في هذا الظرف العالمي لسيطرة الصورة، أُريد للثورة السورية أن يكون قمعها تكراراً للقمع الذي شهدته البلاد مطلع الثمانينيات، حيث تمّ إخماد الأصوات المعارضة كلّها، وإيداع اليسار واليمين في السجن تحت شعار الدفاع عن النظام ضد العصابات المسلّحة من جماعة «الإخوان المسلمين»، الذين صدر بحقّهم قانون يقضي بإعدام كل منتمٍ إلى جماعتهم، سواء كان سلمياً أو مسلحاً. في صمت الصورة آنذاك، صمت العالم على مجزرة حماه المروّعة، وعلى زجّ الآلاف من الاتّجاهات كلّها في السجون من دون محاكمة، وما نتج عن ذلك من آلاف القتلى والمختفين الذين لم يُعرف مصيرهم حتّى اليوم.
في الثورة السورية، خرج «سينمائيون جدد» أرسلت لهم «تحية الزمالة» منذ لقطات المظاهرات الكبرى في حماة ودير الزور وحمص . وقد خلّد هؤلاء لحظات رائعة للثورة السورية السلمية بشبابها الذين يغنّون ويرقصون ويبتكرون وسائل للتعبير عن طلب الحرية والكرامة، فتحوّلت قدرات هؤلاء الشباب، الذين كانوا الهدف الرئيسي لرصاص القناصة، من مجرّد تصوير بدائي بكاميرا مهتزّة خائفة إلى صُوَر يسحر بعضها بـ«جماليته»، إذا جاز التعبير هكذا، عن صُوَر الموت والدمار. فدخول الدبابة مثلاً للحويقة في دير الزور كان مرعباً ومعبّراً عن آلة الدمار التي تخترق جمال المدينة الفراتية الخضراء، لتوقف تظاهر أبنائها من أجل الحرية، ليليها قصف مئذنة الجامع على الهواء.
كم كانت الصوَر التي نقلها شباب سوريا معبّرة. كانت في بداية الثورة تحتفي بالشهيد بالإسم: حمزة، هاجر، غياث، إبراهيم، زينب، باسل، لؤي… أسماء وأسماء كنا نردّدها، ونعرف صورتها، ونسمع أصواتها، ولا تغيب ابتسامتها ونظرتها عن قلبنا. نرى حالة الابتكار التي جعلت كفر نبل أيقونة من أيقونات الثورة السورية، وحمص الخاضعة للقصف اليومي وهي ترقص وتغني، كما سبقتها حماة بقاشوشها وحماسة أهل مجرى العاصي، لتبقى درعا، مهد الثورة، مثالاً بقراها وأهازيجها. كانت الصورة تجعلنا نحسّ الخسارة، وخاصة حين اقتربت من كل منا، وحصدت فيمن حصدت سوسنتنا الغالية. لكن، للأسف، مع الوقت وزيادة شراسة الحل الأمني، أصبحت الصُوَر تأتينا بأرقام: مئة شهيد هنا، مئتان هناك، ثم ألف، ثم آلاف، وهكذا. لم نعد نميّز الشهداء. تحوّلوا إلى أرقام. لم تعد الصورة تهزّ العالم، فقد أصبح «الموت عادة»، وما أبشعها من عادة.
اليوم، يحدّثونك عن ضربة أميركية مقبلة. تستعدّ كاميرات العالم وأقمارها الاصطناعية لرصد موت السوريين، الذين وصل بهم الأمر إلى انتظار أية معجزة تغيّر صورتهم، وتعيدهم إلى حالة ثورتهم الأولى، ليعود المتظاهرون من منفاهم ومهجرهم ومعتقلهم وأماكن إخفائهم، ليرقصوا ويغنوا: «سوريا بدّها حرية».
للأسف، لن تحدث المعجزة. لن نرى من جديد غير صُوَر الصواريخ التي ستنطلق على الشاشات، لتسقط كما في ألعاب الفيديو على المباني وفوق رؤوس الناس، الذين صاروا يتمنّون أيّ خلاص ينهي صورة مأساتهم.
(مخرج سوري)
علي أبو شادي:
الصورة المزيفة
«ولهذا، فإن هذا الكتاب وهو يتعامل مع وسائل الفنان السينمائي ـ وليس مع أهدافه ـ يدرك أن الأهمية الحقيقية هي للقيم الإنسانية التي يعبّر عنها الفنان، وليس لابتكار زاوية جديدة للتصوير، أو تركيب الفيلم، أو خلق إيقاع يتّسم بالحساسية والذكاء، بل إنه ينبّه إلى خطورة البراعة في استخدام هذه الأدوات، وقدرتها على الإقناع حين تستخدمها أيد غير أمينة، تسهم في تضليل المُشاهد وتزييف وعيه، وتعمل على تكريس واقعه في مجتمع قد يكون خلاصه الوحيد هو التغيير».
كتبت هذه الكلمات في مقدمة كتابي «الفيلم السينمائي: الحرفة والجماليات»، الصادر في العام 1982، وأراها صالحة الآن أيضاً لتفسير ما يحدث من تناول وسائل الإعلام للثورات العربية، ورغبة الشعوب في التغيير. دائماً تلجأ قنوات، كـ«الجزيرة» و«سي. أن. أن.»، إلى تزيف الحقائق. قبل الحروب، تبدأ فى عرض مجموعة من الأفلام التسجيلية الموجّهة، التي تُستخدم كنوع من الضغط السينمائي، عبر تقديم معلومات خاطئة بهدف إضعاف الروح المعنوية للجيوش، وتساعد في انهيارها. لعبت «سي. أن. أن.» هذا الدور فى حروب أميركا ضد العراق تحديداً، وحرب تحرير الكويت، كما تمّ استخدامها لاحقاً، بشكل أوسع وأقوى، لتبرير غزو العراق. كذلك تمّ استخدام قناة «الجزيرة» لهذا الدور، خاصة بعد أن اكتسبت مصداقية زائفة، ونجحت في الترويج لما هو ضد العراق وضد صدام.
دور هذه القنوات في الحروب أخطر من دور السلاح. فلا قيمة للسلاح إذا كان فى أيدي جيوش فقدت معنوياتها. هذا الدور تلعبه «الجزيرة» الآن في مصر، إذ تصوّر أن هناك حربا بين أنصار الشريعة والشرعية، ومن تسمّيهم أنصار الانقلاب. هذا ليس صحيحاً. فـ«جماعة الإخوان» مجرّد جماعة تواجه شعباً بكامله. لكن هذه الصورة تستغلّها «الجزيرة» لإقناع العالم بمشروعية ما تفعله الجماعة المرفوضة شعبياً.
ربما مقازمة هذه الصوَر الزائفة تحتاج إلى إمكانات مادية، وعقليات مبدعة، وقدرة على المراوغة. هذا غير موجود، تحديداً لأن «الجزيرة» تقف خلفها دولة. بل لعلّ كثيرين لا يعرفون أن هناك دولة اسمها قطر من دون قناة «الجزيرة».
قد تحدث ضربة أميركية ضد سوريا، وقد لا تحدث. لكن، بدأت حرب الصورة للضغط فى اتجاه واحد، وبدأ التمهيد لها عبر هذه القنوات.
(ناقد سينمائي مصري)
جود سعيد:
صُور لا تليق بالضحايا
ترتبط الصورة عموماً بالذاكرة، فردية كانت أم جمعية. لجأ الأفراد منذ بدء البشرية لتوثيق حياتهم بطرائق مختلفة (شكل من أشكال محاربة الموت والبحث عن بقاء أبدي)، بدءاً من الصوَر على جدران الكهوف، وانتهاءً بالكاميرات الرقمية المدمّجة ضمن الهواتف النقّالة. أصبحت الصُوَر اليوم الوثيقة الأهمّ في كتابة التاريخ، لذلك، فإن الأمم التي لا تمتلك وسائل صناعة الصورة جمعياً وليس فقط فردياً ستترك للآخرين أن يكتبوا تاريخها. محاولات التوثيق هذه كانت تتغيّر وتتبدّل تبعاً للتطوّر التكنولوجي، الذي أتاح اليوم لكل فرد أن يكون شريكاً في كتابة التاريخ وسرد الحدث المتعلق بالشأن العام من وجهة نظره. وهنا السؤال: وجهة النظر الفردية هل من الممكن أن تصير وثيقة تعبّر عن الحقيقة المطلقة؟ ما من صورة (لا سيّما الوثائقية الإخبارية) من غير صانع أو مؤلّف. يتحمّل هذا الأخير مسؤوليتين أخلاقيتين كي ترقى صورته إلى مرتبة الوثيقة: الأولى تجاه المتلقّي، تتمثّل في أمانة النقل وعدم التدخّل في صيرورة الحدث المنقول، أو توظيفه لغايات تناقض حقيقته. الثانية لا تقلّ أهمية عن الأولى، وتتلخّص في حقوق الشخوص الموجودين في الصورة: متحرّكة (فيديو، سينما) أو ثابتة (فوتوغرافية).
الصورة سلاح ماض بيد صانعه منذ سقوط تشاوشيسكو إلى اليوم، بل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. نحن إلى اليوم نعيش حقيقة ما بعد سقوط برلين، من خلال وجهة نظر واحدة، ما خلا بعض المحاولات السينمائية التي أضاءت جوانب أراد لها المنتصر أن تبقى حبيسة الظلّ. المجتمع الذي لا يمتلك أبجدية صناعة الصورة وأخلاقيات التكنولوجيا التي تطوّر هذه الصناعة، هذا المجتمع سيكون إما عبداً لهذا السلاح أو سيُقتل به، والمجتمع العربي عموماً (مع الإستثنائين المصري واللبناني إلى حدّ ما، وبالانتباه إلى اختلاف الحالتين) تُصنع صُوَره بماله، ويستهلكها على الكنبة أمام التلفاز، أو تحتكر أنظمته كل سبل صناعة الصورة لدرجة يفقد معها المواطن الأساسيات المعرفية والأخلاقية (الكاتالوغ المعرفي الأخلاقي) لفهم وصنع الصورة الوثيقة.
للتثبّت من الحالتين، تكفي مشاهدة سريعة لوسائط بثّ صناعة الصورة الخاصة بالنموذجين. إبّان العدوان على العراق في العام 2003، احتكرت أميركا بثّ الصورة الوثيقة، وأعطت للعالم الحقيقة من وجهة نظرها فقط، فكانت هي صانع الحدث وصورته، وتتحمّل اليوم (أقلّه) التبعات الأخلاقية والإدانة من خلال وثائقها. حرب العراق هي حرب احتكار صناعة الصورة ـ الحقيقة، تطوّرت في الربيع العربي (لا سيّما في الحالة السورية) إلى حرب احتكار حقيقة الصورة، لا سيّما أن الصانع هم أفراد المجتمعات المعنية (مجهولون، فإن اكتشف خطأ ما سيقيد ضد مجهول)، والمروّج هو إعلام عربي «حرّ ومستقل لدرجة التبنّي المطلق للربيع العربي، من دون أي محاولة لمحاكمة الحدث، فبراءة صورة الحدث تكفي!!». الصورة ليست وثيقة تهبط من السماء. هي عين فرد تسجّل، وأكرّر كي تستحق صفة الوثيقة يجب أن يكون الصانع معلوماً، ولا يكفي تبنّي مؤسّسة ما للصورة. الصورة من غير صانعها لا تعدو أن تكون بطاقة بريدية. الصورة لا تصبح وثيقة بالترويج!، وهذا حال عموم الربيع العربي، لأن دولاً كاليمن وسوريا احتكرت أنظمتها صناعة الصورة عقوداً، وهي لا تمتلك أسسها المعرفية. أتى يوم اجتياحها بالصوَر لإسقاطها، فوقفت كالراعي الذي قال الحقيقة لأول مرّة، فلم يصدّقه أحدٌ!
في الحالة السورية، وصلت فوضى الصورة والصورة المضادة بعد سنتين ونصف سنة إلى حرب موازية تشهد لها وسائل التواصل الإجتماعي، وكذلك وسائل الإعلام، بعد أن كانت الغلبة المطلقة بداية للحقيقة المروية فقط من طرف الربيع السوري. تختلف الحالة في مصر، التي راكم شعبها عقوداً من الثقافة البصرية أدّت إلى ألاّ تقع اليوم فريسة صُوَر الماكينات الإعلامية العملاقة. مصر تردّ وبالسلاح نفسه دفاعاً عن التعددية الثقافية والفكرية، وعن الهوية المصرية العربية في وجه الإسلام السياسي. سوريا تحت القصف «اليوتيوبي» اليومي تمهيداً لقدوم المخلّص.
لم تعد أميركا تتكلّف عناء احتكار الصوَر، فالأسهل انتقاء الصوَر واحتكار تفسير الحقيقة، وهناك من يقوم بالمهمة من التصوير للترويج. أميركا تكفيها صورة لتشنّ حربها باسمنا، وسؤالي: ما هو شعور صاحب الصورة إذا متنا؟ أعتقد أن حرباً أميركية لن تكون كحرب العراق أو أفغانستان (دولتان دارتا قبل سقوط أنظمتهما في الفلك الأميركي). فالأسئلة هنا مختلفة، ونحن بانتظار الأجوبة. لكن الوثيقة التي أدّت إلى الحربين السابقتين تطوّرت هنا لتصير مجرّد مقطع من الصُوَر الفيديوية، ويكفي أن تملك أميركا القوة كلّها لتقول: «هذه هي الحقيقة». صُوَر الربيع العربي في مجملها بلا مرجعية كي تتمّ محاكمتها يوماً، ومن هنا تأتي خطورتها، فقد يُبنى عليها عدوان وإبادة باسم مضمونٍ لا نعرف عن ملتقطه إلا حركة اليد وهو يسجّل (كيف لمن يجهل معنى الكتابة بالصُوَر أن يقوم بثورة بها). صُوَر الربيع العربي كالمدجنة، لا تنقل الحدث بل هي نتيجته التي تناسب مروّجيها، كي تحقّق باسم هذه النتيجة الغاية التي تريد.
صُوَر الربيع العربي لا تراعي أي حرمة. فالموت على شاشاتنا صار عادة، وإحصاء الموتى رياضة. صار السوري صورة باسمه يُقتل سوري آخر، قد لا يرتقي إلى أن يكون حتى صورة. إذ أن حتى الصورة في ربيع العرب لا تليق بالضحايا جميعهم، فهناك موتى للشاشات وموتى لدموع الجدّات.
(سينمائي سوري)
رائد أنضوني:
مربط الفرس
لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن الصورة في زمن الحروب والأزمات جزء أصيل من النزاع. هذا مؤكّد. ولسنا بحاجة أيضاً إلى التأكيد على أنه لا توجد صورة «موضوعية»، سواء على المستوى المعلوماتي، أو على مستوى تأثيرها الحسي، ما دام هناك شخص ذو مرجعيّات فكرية وحسية يقف خلف الكاميرا. لكن أكثر ما يثير اهتمامي في موضوعك هو المُشاهد العربي، وتركيبته السيكولوجية، وعلاقته بالأساطير والبطولات الوهمية، ومدى حاجته إليها، وكيف يتحوّل إلى شخص تسهل السيطرة عليه من خلال الصورة.
ما يثير انتباهي واهتمامي أيضاً كامنٌ في تطوّر المُشاهد العربي بين حرب وأخرى، وكيف يتشكّل عنده وعي حسّي غريزي مع الصوَر المنتشرة، سواء في المحطّات التلفزيونية، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف يقرأها، وكيف تؤثّر فيه.
أعتقد أن هذا هو «مربط الفرس»، لأن المشاركين في الحرب، «أطراف النزاع المباشر»، من «حقّهم» تجنيد الوسائل كلّها، ومنها حرب الصورة. لكن الجهد الحقيقي للخروج من الجهل يجب أن يُبذل لدى الجمهور العربي ضمن سياق ثقافي عام، للخروج من دائرة سلوك المضطهدين والعبيد الذي لا يبحثون إلاّ عن الوهم وإرضاء غرائزهم البطولية الرجولية الوهمية.
(سينمائي فلسطيني)
هشام الزعوقي:
الأشباح تتحارب
يُتوقّع أن تكون التغطية الإعلامية للضربة العسكرية المقبلة ضد النظام السوري من أفقر أنواع التغطيات الصحافية. ضبابية الأهداف وبُعد البوارج البحرية (التي يُتوقّع أن تكون العامل الحاسم في الهجوم) يجعلان من إمكان تدفّق الصوَر أمراً مستبعداً وصعباً نسبياً.
الأجواء العالمية لا تساعد كثيراً على إبراز دور البطولات، سواء لدى المهاجمين أو لدى القوات المدافعة. فغياب البعد الشعبي والجماهيري عن حاضنة الدفاعات السورية، يجعل النظام يستبدل ماكينته الإعلامية الدعائية الطاغية من فكرة النقل المباشر من ميدان الأحداث، إلى الاعتماد على أشرطة بصرية قديمة بالية، عمرها عشرات السنين، تعود إلى فترة أرشيف حرب «تشرين 73» وبعض حروبه في لبنان. أما الجهة الضاربة، فأظنّها ستتبنّى طريقة الشاشات الرادارية، وتبيان إصابة الأهداف عن طريق البيانات الإلكترونية التي هي أقرب ما تكون إلى ألعاب الـPlay Station. فإذا كانت «حرب الكويت» مثلاً لحرب البثّ المباشر وتدفّق الصوَر والسبق الإعلامي، فإن «حرب اجتياح العراق» كانت مثالاً للتكتّم الإعلامي والحذر قبل إنهاء الهدف الأساسي وإسقاط بغداد.
الضربة السورية المقبلة ستكون أقرب إلى تغطية حرب الأشباح، التي لا ندري تماماً ما يحدث فيها، وما حدث قبل ورود تسجيلات كاميرات الموبايلات الخاصّة بناشطي الثورة السورية.
(سينمائي سوري)
أحمد ماهر:
ملامح تختفي تدريجاً
تجمّدت الحركة داخل مجال الرؤية السورية لعشرات الأعوام. أصوات وأجساد غرست في شمع الخوف الأسدي العتيق. خوف تجاوز التفسير السيكولوجي للكلمة، بل تحوّل إلى شيء عضوي متأصّل بالتربة السورية منذ أن تولّى الأسد الأب الحكم، حيث لم يصنع شيئاً في سنوات حكمه كلّها، سوى تأصيل هذا الخوف العضوي في كيان المجتمع السوري، الذي يبدو حتى هذا الحين متماسكاً ومتناغماً. يرث الأسد الصغير هذه التربة التي حافظ عليها، ليثبت للمشكّكين أنه ليس أقلّ ضراوةً وبطشاً من الأب.
حتى هذه اللحظة، صورة المجال السوري واضحة الملامح، تبدو قاتمة متجمّدة، لكنها ثابتة حتى تأتي اللحظة التي تأخّرت كثيراً، بعد مدّ الحرية العربية من تونس إلى مصر واليمن وليبيا. لم يتوقّع أحدٌ أن تنال سوريا نصيبها من فورات الجيران، إلاّ ان المجال اتّسع، وحرارة طموح الشعوب الأخرى أذابت شمع الرهبة من الشعب السوري، فبدأت تظاهرات على استحياء في بعض البلدات الصغيرة، كأدلب ودير الزور. لم تجرؤ الحناجر التي تيّبست طويلاً على أن تنطق بهتافات مناهضة للأسد. استغرق هذا وقتاً طويلاً منذ هتاف الشعب بأنه يريد إسقاط المحافظ، حتى تمكّن المواطن السوري من إطلاق صراخ واضح مناهض لبشّار، اسماً ووصفاً وكياناً. تخلّصت التربة بطيئاً من خلايا السكوت والسكون، وانفجرت المدن لتبدّد الصورة الجامدة، وتتوضّح ملامح بلا خلط عن شعب ينتفض. لكن التاريخ الدموي للعائلة لم يستقبل هذا بتفهّم، فشهدت أركان الصورة بقع دماء أذابت الصورة تحت قشرة حمراء لا يتوقف زحفها، وشعب يناضل الآلهة التي لا ترحم ولا تشتّت.
حتى بعد تلك التيارات الانفصالية لأعداد ضخمة وقتها، توقّع العالم انقشاع ضباب الأسد من الصورة، وتنبأ الجميع بنهاية حكم النار والدم. إلاّ ان الوقت الذي يمرّ يربك المشهد الثوري بين جيش حرّ، وفصائل منشقّة، وطوائف تنشقّ من المجتمع الذي يمزج علويين وسنة ومسيحين حائرين، فتتوه ملامح المعارضة على مدى زمني بطيء، يضرّ بالفعل الثوري أكثر من تأثيره في نظام يراهن على الوقت، واستعادة الفزع المفقود.
بدأت ملامح الصورة تأخذ في التشوّش والذوبان، مع دخول فصائل المجتهدين الأغراب الذين يصلون إلى بقاع الصراع الوطني ليوجّهوه دائماً إلى ناحية طموحات مملكة الإسلام، التي أضاعت بلداناً عدّة، من أفغانستان وصولاً إلى العراق. مع تدفّق هؤلاء بكثافة، وسيطرتهم على جبهة الرفض التي خاضت ثلاث مراحل من الثوره الشعبية حتى الانفصال العسكري، ثم «الجبهة الإسلامية المسلّحة»، أصبحت الثورة أكثر تعقيداً، والملامح أكثر بهتاناً. حتّى حين نواجه حالياً شرطاً جديداً في الصراع، وهو التدخّل الغربي أو بالأحرى الأميركي الفرنسي، الذي يبدو شرطاً واجباً في مرحلة تختفي فيها البدائل، وحيث تُرك الشعب فريسة لسلطة وجيش طائفيين، لا يعرفان الرحمة. أما الجبهة الجهادية، فلا تبتغي تحرير الشعب السوري، لكنها تهدف إلى تشييد «دولة محمد» بعيداً عن متطلّبات أصحاب القضية الرئيسية. ويصبح أمر الحيلولة دون تدخل غربي عسكري شديد الصعوبة، حين تختفي الحلول البديلة، وتختفي ملامح الصورة، ويطفو لون طائفي دعمه مجاهدو السنة القادمين، وعلويو سوريا، وشيعة «حزب الله» المساندون، وظهيرهم الرئيسي إيران.
في رأيي، لن تتخلّص الصورة من هذا التشوّش بسهولة، بل ستزداد تعقيداً. أستبعد تكرار السيناريو العراقي لتغيّر اللحظة التاريخية، ولاستيعاب أميركا من المَشَاهد الخاسرة في العراق. لكن استمرار الوضع من دون تدخل يعني فناء الدولة، في حين أن سيناريو التدخّل لا يحمل حلولاً مخلِّصة واضحة، ولا يبقي إلاّ يقيناً وحيداً: «الشوشرة» الطاغية على الصورة، على الرغم من أنها تحرّكت وتخلّصت من سكونها السابق.
(مخرج وكاتب سينمائي مصري)
السفير