صفحات سوريةنور الله السيّد

الضباب الذي يلفّ المشهد السوري

 

د. نور الله السيّد

إزاء فشل النظام السوري في فرض نفسه نظاماً أبدياً لسورية على مرّ العامين الماضيين، وعدم تمكن المعارضة المسلحة من حسم الأمر بسرعة معقولة، تدخل الأزمة السورية طوراً جديداً أكثر ضبابية من أية مرحلة أخرى نتيجة لعدم الحسم هذا ولتعدد المؤثرين دون أن يكون لأي منهم، على المدى القصير على الأقل، إمكانية قاطعة في فرض إرادته ومن ثم فرض الحل الذي يريده.

وأول المؤثرين هو النظام السوري الذي لم يترك لنفسه مكاناً في سورية المستقبل، مهما كان هذا المستقبل. ففعله ينحصر اليوم في متابعة القتل والتدمير ونشر الخراب. أما دعواته المتكررة للحوار فهي ليست أكثر من مجرد تذاكٍ لا صدى له في الشارع السوري، وهو حوار محكوم عليه بأن يكون حواراً بين النظام والنظام نفسه كما يظهر ذلك على قنواته التلفزيونية. أما الحوار التفاوضي مع المعارضة الممثلة بالإئتلاف الوطني السوري فهذا أمر غير ممكن بالنسبة للنظام لأنه يعني ببساطة سقوطه، حتى لو لم يكن شرط التفاوض المسبق هو رحيل الأسد. إذ لا يمكن لأغلبية السوريين الساحقة تصور بقاء النظام أو بعض من رجالاته في السلطة بعد كل ما دفعوه من أثمان باهظة. ومن ثم فإن أي تفاوض لا يفضي إلى رحيل النظام لا يمكن أن يكون مقبولاً ولا يعني سوى استمرار الصراع المسلح.

ولكن لماذا سيقبل النظام بالرحيل وهو يشعر بأنه لا تزال لديه أسباب البقاء التي تمده بها إيران! إيران التي قدمت مساعدات اقتصادية وعسكرية كبيرة للنظام السوري واستثمرت فيه ردحاً من الزمن لا يمكنها أن تقبل بزواله الذي يعني زوال حجر أساس في مشاريعها الدينية-السياسية في المنطقة. فسورية على مدى العقد الماضي أصبحت جزءاً من المجال الحيوي الإيراني، وليس تصريح مهدي طائب عن أن سورية هي المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثين وأنها أهم من الأهواز على ما تحويه من بترول مجرد زلة لسان. وإيران ستستعمل كل الوسائل للإبقاء على النظام السوري أو استنساخه، فهي تتحدث اليوم عن خلق جيش من الميليشيات قادر على استمرار القتال ودعم جيش النظام. كما تدفع باتجاه زج حزب الله اللبناني علانية في القتال الدائر في سورية مع كل ما في ذلك من تعقيدات ومخاطر من الأفضل للبنان أن يبقى بمنأى عنها. ولكن حزب الله، كما أظهر العقد الماضي بكل وضوح، يستمد بقاءه من بقاء النظام السوري. لن تتخلى إيران عن النظام السوري وستدافع عنه حتى النهاية، فسقوطه قد يفتح الطريق إلى سقوطها، خاصة إذا أُخذ ما يجري في العراق بتوازٍ مع ما يجري في سورية.

أما روسيا التي تزعمت مناهضة مناهضي النظام السوري فتجد نفسها فريسة مراهناتها وتخوفاتها التي بنت عليها مواقفها من الأزمة السورية. فالنظام السوري وإيران أكدا لها قدرتهما على قمع الثورة السورية وإخمادها. وهي تكتشف اليوم أن هذه التأكيدات كانت مجرد أوهام بعد أن كانت صرحت في مطلع العام الماضي أنه لا يمكن للمعارضة المسلحة هزيمة النظام السوري حتى لو حصلت على أفضل الأسلحة. وكان النظام السوري قد وعد بالسير في الإصلاحات طريقاً موازياً للعنف يكون مخرجاً في حال تعذر الأول، ولكنها تكتشف أيضاً مدى فشله في إصلاحاته كما جاء على لسان مدفيديف في دافوس في الشهر الماضي. وروسيا تستشعر الخسائر التي يُمنى بها النظام السوري يومياً عن طريق خبرائها المقيمين في سورية وتعرف أن لا أمل له بالانتصار. لذا فهي تدعوه اليوم لحوار جدي مع الإئتلاف لأنه المخرج الوحيد المتبقي كما تقول، دون أن تقدم مشروع حل وإنما تعلن عن تأييدها لخطة الأسد التي أعلنها في خطاب الأوبرا باعتبارها مدخلاً للحوار. إذن هي تدعو لحوار المراوحة بالمكان.

ومع أن الغرب أناط ضمنياً حل المسألة السورية بروسيا ولكنه نسي كيف لروسيا أن تجترح حلاً وهي جزء من المشكلة! فمثلاً منعت روسيا حتى قرار إدانة النظام السوري لاستخدامه العنف ضد المتظاهرين وهي اليوم تعيب على الولايات المتحدة عدم موافقتها على إدانة تفجير المزرعة في دمشق يوم الواحد والعشرين من شباط/فبراير، في حين أنها لا تمانع في استخدام الجيش السوري الطائرات الحربية والصواريخ البعيدة المدى التي تصيب المدنيين كما أظهر المشهد القيامي لجبل بدرو في حلب، أو قصف المصلين في بلدتي الحراك ودركوش يوم الجمعة الماضي.

الموقف الروسي لا يزال يتأرجح بين ارتباطه بالنظام السوري الذي يريد الإبقاء عليه وبين دعوات مستحيلة للحوار. لذا تراقب روسيا الأحداث بانتظار ما يكسر الرتابة بالرغم من كل الضجيج الذي يثار عن اتفاقات وشيكة مع أمريكا على صيغة حل للأزمة السورية. وهو ضجيج كان قد أُثير في أواخر العام الماضي ولكن محادثات الإبراهيمي برهنت أن ذلك لم يكن سوى بعض من الضباب الذي يلفّ موسكو.

الغرب ممثلاً بأمريكا ينتظر التغير في معطيات الأرض، وهو لا يرى أية ضرورة للتدخل على أي مستوى. يتابع تواصله مع الأزمة السورية بتقديم معونات إنسانية هزيلة مقارنة بالحاجة الحقيقية. كيري يقول بأنه متفائل في جعل الأسد يغير حساباته، ولكن كيف وهو الذي قال عن الأسد بعد إحدى لقاءاته معه بأنه ليس متأكداً من الأسد يدرك تماماً العالم الذي يتحرك فيه. والمشكلة في الواقع ليست في تغيير حسابات الأسد وإنما في تغيير حسابات إيران التي تعرض طرح قضية سورية والبحرين في اجتماع كازاخستان مع مجموعة 5+1 الذي سيناقش الملف النووي الإيراني. الموقف الغربي في مجمله لا يزال ضبابياً كما كشف ذلك موقف الاتحاد الأوربي بتأجيل رفع الحظر عن بيع الأسلحة لسورية لمدة ثلاثة أشهر أخرى. وهذه الضبابية الأوربية ليست سوى صدىً للضبابية الأمريكية عندما تقول النيويورك تايمز إن أوباما ‘قد’ يعيد النظر في مسألة تسليح المعارضة السورية.

يُضاف إلى كل ذلك موقف الائتلاف السوري الذي يبقى ضبابياً في بعض جوانبه بالرغم من أن رئيسه كسر الصمت وفضح كل ما كان يُقال عن التحضير لحل للأزمة السورية وكشف بأن لا شيء على الطاولة سوى الدم والدمار الذي يدفعه السوريون. فالائتلاف يَعِدُ بمقترح لحل الأزمة منذ أكثر من شهر، ويجتمع الاجتماع تلو الاجتماع لبلورة المقترح ليصل إلى محددات للحل، وهو ربما من وجهة سياسية أفضل من طرح حلا قد لا توافق عليه الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية. ولكنه ضبابي في أنه لم يُقدم حتى الآن خطاباً مطمئناً لجميع السوريين يلتفون حوله ويوضح تصوراته عن سورية المستقبل وخطته في تحقيق ذلك وكيف سيتصدى للمشاكل الكبيرة التي ستنجم عن سقوط النظام.

المواقف التي لا ضبابية فيها تتمثل في إصرار النظام على متابعة التدمير والقتل المجانيين بالرغم من معرفته بأن لا أمل له في الانتصار، حاله كحال كل الأنظمة الفاشية التي سبقته على مر التاريخ التي لم يخرج أي منها منتصراً في نهاية المطاف. وموقف الثوار أيضاً لا ضبابية فيه، فهم لن يتراجعوا عن ثورتهم بعد كل ما بذلوه، وهم يكسبون في كل يوم معارك ضد النظام. معارك قد تطول كثيراً سيزداد فيها أعداد الشهداء وسيزداد الخراب وهو أمر لا ضبابية فيه أيضاً.

‘ اكاديمي سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى