صفحات الثقافة

الضحك المحرّر للنص

إبراهيم محمود

ماذا يعني أن يكون الضحك محرّراً للنص، وأي ضحك يكون مؤهَّلاً لجعل النص محرَّراً، ومما يكون هذا النص محرَّراً ؟

لعله العنوان المهيأ للإضحاك للوهلة الأولى، وتحديداً جهة الذين اعتادوا كثيراً قراءة النص، أي نص، بعيداً عن الضحك.

لكن، هل تمهَّلنا قليلاً وساءلنا أنفسنا قليلاً أيضاً: ماذا يعني وجود النص المحرَّر من جهة الضحك، أي وهو في عهدته؟

لعلنا نحتاج هنا إلى بعض من المسح الجغرافي المتعلق بالأنشطة النفسية، لرؤية أي نشاط مؤهَّل أكثر من غيره، وبالشروط التي تمكّن من معايشته إبداعياً وجمالياً. الضحك هو المرشَّح أكثر من سواه، أي حين يفسح في المجال واسعاً، ويضفي على العلاقة القائمة بين المعنيين بأهل الأدب، أو النص المقدَّم طابعاً من الانفتاح النفسي، كما لو أن المكتوب، وهو مذيَّل بتوقيع شخص ما’ اسم علم’ وله عنوانه المميز، قد ساهم كثيرون في تأليفه؟ أليس في هذا القول تناقض جلي؟

ربما بدا الوضع كذلك بداية، إنما لا بد من التروّي، وملاحظة أن الضحك وحده، وليس سواه، وهو في دلالته الحية، أضمن من أي نشاط نفسي آخر، على إتاحة الفرصة لقراء كثيرين مختلفي المشارب لأن يعايشوا حيوية المقروء، فلا يعود النص هنا فاعل إضحاك، كما هو متداول، وبالصيغة الأكثر إشهاراً واستهتاراً، أي من باب السخرية ليس إلا، إنما هو فاعل منتج’ بالمعنى الاقتصادي’ وكلنا دون استثناء طبعاً كائنات اقتصادية، ولها انتاجها، مع فارق نوعية المنتوج وسوق العرض والطلب وزبائنه..، أو مسهم بارع في تهوية النص، وإكسابه قابلية بقاء واستمرار، كون الضحك هنا يحال على استنارة عقلية، إلى عالم مأهول ببشر أصحَّاء، ولأنه ضحك، فهو يطرح النص المسمى من خلاله بعيداً عن التأطير، استجابة لإرادة الإبداع أو المختلف، إنه التوقيع الأكثر فعالية قيمة على نص لنيل حظوة لدى قراء مختلفين، وبالتالي، فإن الضحك هذا يبلغ درجة من الرقي يتناسب وما هو محفّز على الخروج إلى العالم الأكثر رحابة، كونه يمنح الآخر: القارئ، المقبل على قراءة النص، قدرة وتفاعلاً ملموسين، حيث يتنحى عنصر الخوف أو الرهبة المسماة والمروَّج لها هنا وهناك، ليحل محله ذلك الحب الذي يعني توقاً إلى ما يشبه المستحيل، طالما أن رغبة القارئ تتفاعل عميقاً مع رغبة الكاتب..

يعني ذلك وجود بون شاسع بين أن يكون المرء موضوع إضحاك الآخر أو بالعكس، وهو ضحك مرئي، وأن يكون المقدَّم مشبعاً بالضحك المطهّر للروح، والمحرَّض له على تجاوز كينونته الجسدية الضيقة، تعبيراً عن انتماء أوسع إلى العالم.

يبرز الضحك هنا بمثابة تفييز′ إعطاء جواز مرور’ للنص، وتهويته من الداخل، وما في ذلك من فعل تجاوز للحاجز الوهمي المنصوب بين المتردد لأكثر من سبب وصائي، حوله باعتباره آخر ما يجب التفكير فيه، لئلا يعكر صفو النص، تعزيزاً لمفهوم جدّية الكتابة، وتجلّي سمة العصامية أو دعوى الوقار في الكاتب: صاحبه، بينما تقتضي ضرورة الكتابة ذات المدى المفتوح على اللاتناهي منح الضحك شرف المكانة والحضور حتى ما قبل البدء بالكتابة، لأن الكتابة هي خروج الروح من قمقم الجسد المحروس بلائحة كبرى من العرفيات أو المايجيبيات، والاختيار المريع بين’ إما- أو’ وما فيه من شرخ لمفهوم الإبداع قبل أي شيء آخر، وما فيه من إساءة بالغة لروح الكتابة النقدية ولكل أثر فني أو بحثي، لأن أي تجاوب معه لا يعدو أن يكون بفاعل ضحكي، طالما أن الضحك يعني التقريب بين الأصوات دون توحدها أو تذويبها في مصهر واحد، طالما أن الضحك مجدداً- يدشّن لتاريخ تجاذبي بين النفوس، تاريخ اختلافي، وهذه بداهة بالتأكيد، ويزيح الخوف من تهديد ظاهر أو مبطن ما جانباً..

ترى ماذا يعني إقبالنا المتتابع على أثر أدبي، فكري، فني، دون وجود حضور للضحك؟

لعل من أولى أولويات الكتابة في حاضرتها الضحكية، إن جاز التعبير، هو توافر الدفق الحياتي، عبر شعور لا يخطئ، أكثر من الارتداد إلى مقولة ‘ الحس السليم’ المشاعة، والتي تتمثل في سرعة الاستجابة لحركية معنى ما تبهج الروح.

ربما كان في الوسع التذكير بما هو ملحمي، والذي يكون له السهم الأكبر من الضحك، وإلا لما أمكن الحديث دورياً، ومن قبل جمع غفير من الكتاب أو النقاد ذوي الشأن، عن نصوص غابرة تاريخياً، ولكنها عابرة حقب تاريخية، كما لو أن القدرة الإبداعية، أعني وفورة الضحك فيها، أعني استمرار نمائه، أجازت لها في أن تكون حاضرة أزمنة وأمكنة..

وليس من قبيل المجازفة في القول، تأكيد جمع غفير آخر على اعتبار نص ما مشبعاً بالمعاني، رغم الاختلاف في الآراء أو المواقف، كون النص ذاك معزَّزاً بضحك لا يذاع له سر، وهو روحي عليم ضمناً، لأي كان بالتأكيد..

النص بين ضحكين

أن يضحك المرء بملء فمه، ويكون لضحكه صدى، فذلك ضحك يخصه، وقد يكون مضحكاً لسواه، بوصفه مرئياً، أو مسموعاً، أن يضحك المرء بملء روحه، مشاطراً غيره، وهو إزاء موقف متحوَّل كتابة، فهذا يستوجب النظر فيه.

في سياق الضحك المسمى هنا، لا أجد مناصاً من القول باللجوء إلى قانون الثالث المرفوع المنطقي القديم، وهو إما أن يكون النص له صلة نسَب بضحك قابل للتجديد، لا يعدم أصواتاً لها مواقعها الاعتبارية في مساحة جغرافية واسعة، وإما أن يكون فاعل إضحاك أو جلاباً لضحك لا صلة لما هو روحي به في العمق، نظراً لوجود وهم ‘ أصالة’ ما فيه.

لنقترب من الواقع أكثر، حتى نتمكن ثمئذ من الابتعاد عنه، كشرط رئيس لتبين حراك النص المبتغى هنا:

إن النصوص التي نقبل عليها، نتبناها باعتبارها نصوصنا، وإن لم نكتبها، إنها نصوصنا تلك التي انتظرناها كثيراً، نصوصنا التي بحثنا عنها طويلاً، أو تمنيناها مكتوبة بأسمائنا، نصوصنا التي نتحرق شوقاً إلى تحرّي حدودها، حتى يكف هذا الشوق عن إقلاقنا معرفياً، كونها نصوصاً تمنحنا المزيد من الاكتشاف للمجهول، وما يستدعيه ذلك من جهد ومكابدة، وما يرافق ذلك في الوقت نفسه من متعة لا تسمى، لأنها ممهورة بما هو روحي، لأنها ليست نصوصاً دعوية طبعاً، ولكنه القلق الذي نأبى ضمنياً مفارقته، لأن ثمة شعوراً بفائض قيمة تاريخي، وجدي، ينمّي فينا الأكثر رحابة في العالم..

وفي الوسع السؤال عن أي نوع من هذه النصوص، في مظانها الأدبي: الشعري، الروائي، القصصي، أو الفني، أو الفكري..الخ، ومدى حضور الزمان والمكان فيها، ليمكن الوصول بيسر إلى المحدَّد الزمكاني.

إن النصوص العظيمة، تلك التي تلهمنا عن بعد في الزمان والمكان، لحظة قراءتها باللغة التي نعتمدها، كما لو أن هناك في الحال أواصر قربى وجدانية، إنسانية، روحية عميقة بين لغتنا المعتمدة ولغة أي منها، كما في العلاقة مع ترجمات معينة، أعني تلك النصوص التي تصلنا تباعاً، وتصبح في متناولنا، مقبلين عليها دون كلل أو ملل، كما لو أن النص الواحد يفضي إلى نصوص، وهذه إلى الأكثر، على طريقة’ كلما ذقته طلبت المزيدا ‘ تعبيراً عن ضحك يؤذن بذلك..

لكن المفارقة المذهلة، أو القائمة على الإدهاش بامتياز، هو أن هذه النصوص المعرَّفة بالزمكان، تفلت وهي في انتشارها من التأطير الزمكاني، كما لو أنها كتِبت في غفلة من الزمان والمكان، كما لو أن المعنيين بها قبضوا على سر أبدية ما.

الزمكان في وضعه التوأمي هو المحك، هو المرجع، هو منصة إطلاق القول، والحكم الفصل تباعاً فيما تقدم !

في هذا المنعطف الخطر من الكتابة الإبداعية، أو كل ما له بالمؤثر الإبداعي أدباً أو فناً، وما يقابله من أعمال تتجدد في الزمكان، تسقط مقولة’ الموهبة هي الأساس′، ومعها’ النص هو المطلوب وليس صاحبه’ بالنسبة لمن يبحث عن عمق الصلات بين الكاتب، مثالاً، ونصه المنسوب إليه. إن حرارة نص ما لا بد أنها تستجيب لما يفترَض أنها قانون الكفاية الإبداعية أو اللازمكانية، لوجود قوى روحية خفاقة تستهدي بخاصية الذات وإشباعها بمؤثرات الزمان والمكان.

في مكان ما، يشير الإيطالي’ المبدع′: امبرتو إيكو، إلى وهم من يقول بأن الموهبة هي الضامنة لترك أثر أدبي لافت، حيث إن هذه تمثّل نسبة قليلة في صيرورة الإبداع، وظهور الأثر الجدير بأن يُضحك معه روحياً.

كأني به يرد على دعوات أولئك الذين يفصلون بين الكاتب ونصه، بين الضحك المحرّر لنص له خانته الخاصة في المرجعية الزمكانية، والضحك الذي يعرّي النص، بما أنه لم يدفع المستحقات اللازمة للزمكان، ويستحق شرف الاسم.

يمكن الاقتراب من الفكرة المطروحة هنا أكثر، ولا أظنها بباعثة راحة لدى ‘ ملة’ الضحك الحسي، أو’ شيعة’ الحس السليم اليومي أو المتحول زئبقياً بيننا، حيث يتم تجاهل الحكمة الزمكانية، عبر الإشارة إلى جمهرة ضخمة من الأسماء التي نُسبت إلى عالم الكتابة الجادة، أو النص الإبداعي كردياً، دون أي تساؤل عن الأرضية الفعلية لهذه الكتابة المسماة..

أتحدث هنا عن المعاناة الروحية، رهان الضحك الروحي، وما يتبع هذا الرهان من عنف مركَّز يتهدد الروح ويصقلها، ما يكون لأجل هذه المجاهدة الروحية، من تمثّل رحابة الزمكان، والعبور إلى اللامحدود، وخصوصاً في هذه المرحلة…

إن المتابع الحصيف للقائمة الكبرى من الكتابات ذات الشأن الكردي، سواء فيما يخص موقعها الجغرافي أو السياسي أو الاجتماعي أو الأدبي، وكتعبير عن الهُوية والانتماء، أو في صلاتها بالآخر: غير الكردي، ربما لا يفاجأ بهذا الكم الكبير من الكتابات وهي تشدّد على الأصالة وتدعو إلى ثبات الموقف، وفي الحيّز الإبداعي، تطرح نفسها بوصفها المعبّرة الأكثر إيفاء لواقع مهدور، دونما نظر في تبعات القول، أو الخطاب النصي، كأن يستوقفها هاجس داخلي عما تنطوي عليه هذا الكتابة أو تلك من مفارقة تثير الضحك اليومي بمناطحاتها، وتفقِر روح النص، لأن ثمة تجاهلاً لخاصية الزمكان.

أشير هنا إلى علامة المعاناة الفارقة، حيث تكاد تنعدم، لدى جملة المعنيين بهذه الكتابات، لأن المتاح سياسياً، وفي ظل المستجدات العاصفة سورياً، ثمة نوع من الاندفاع الغريزي الجمعي، الفُرَقي، وسعي إلى التعويض كثيراً عما فات في السنوات المنصرمة، وفي الوقت نفسه ممارسة نوع من السادية إزاء آخرين مختلفين عنهم بزاوية كاملة فيما تركوه من كتابات، لا تخفي ارتباطها الزمكاني، دون ادعاء التمثيل الكامل لما هو كردي أو وطني أو إنساني بالمعنى الأعم هنا.

إنها المفارقة المعرّية لأجساد معذّبة لأرواحها، لحظة هذه الانتقالات بين الأمكنة الجغرافية، وممارسة نوع آخر من الصراخ القطيعي وغباره، وهو الأكثر تعبيراً وإيفاء للمعنى عما هو صائر ودائر، بالنسبة لهؤلاء المهرولين هنا وهناك، وحيث يلتقي السياسي الهابط والثقافي الأكثر هبوطاً والكتابي المؤدي أدواراً هابطة، وما تنم هذه المواقف عن غياب عمق المبدأ الأكثر جدارة بالتسمية، إنه المبدأ الذي يراهن على الجسد الذي يضاء بروحه، وهي روح معززة بالزمكان بعمق..

المثلُ في لعبة الفضائيات الكردية والذين يمارسون جلسات سمر، أو يؤدون أدواراً، أو يقدّمون عروضاً على الهواء، حيث تتكاثر الأسماء وتتزاحم خلال السنتين المنصرمتين، في حمّى تأكيد الذات، دونما أي مواجهة لتلك الذات التي تعرض على الملأ التلفزيوني، أو في الشارع، أو في هذا المكان المدشَّن باسم تحزبي معلوم في المجمل، وألقاب تحمَل، واتهامات مجازة، وحيث التنافس على أشده بين هؤلاء رغم التباعد في المكان أحياناً بينهم، ولكن، كما لو أن اتفاقاً محموماً هو الذي صيرهم هكذا: أدباء بالجملة، ومنظرين بالجملة، وأصحاب مبادئ بالجملة، وأولي أمر شعب ووطن دفعة واحدة..

هل يمكن استعادة روح ماركس راهناً، والقول باسمه: في الحياة اليومية، يجب التمييز بين ما يقوله الشخص عن نفسه، وما هو عليه في الواقع؟ مع بعض التصرف في كلامه دون الخروج عن منطوقه التاريخي في زمانه ومكانه !

وإذا كان لماركس وزر أخلاقي إيديولوجي يجعله مثالاً غير مهضوم، فيمكن الاحتكام إلى أي مبدع، أو صاحب أي نص، دخل التاريخ من بابه العريض، وهو مشغول بحيوية الزمان والمكان، أي كان لا يضن بوقدة الروح لحظة الكتابة ، وكيف أن هذه ترسم خارطة زمانها ومكانها، وإحداثيات السلوك ضمناً بالصوت والصورة، أو بالأثر الذي لا يضل أحداً ..

هل يمكن القول هنا، وبصيغة صادمة، كما هو الجاري راهناً باسم الكردي وما يشغل الكردي كردياً ووطنياً، بالأصالة القائمة أو بالنيابة العائمة: ما أكثر الكتاب الكرد، ما أقل الكتابة الحاضرة بروحها المتجاوزة للزمكان ..

ربما أجدني محفّزاً في هذه النهاية المفتوحة إلى تثبيت رواية (الأرواح الميتة) للعظيم’ غوغول’ لمن يهمه الأمر نصّياً..!

باحث سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى