الطائفية السياسية وفشل الدولة الوطنية/ سمير حمدي
عندما تشكلت دولة ما بعد الاستقلال في المنطقة العربية، ورثت جملة من المشكلات المزمنة، مثل قضايا الحدود والارتباط السياسي والاقتصادي بالمحتل السابق، بالإضافة إلى قضايا الأقليات والمجموعات الطائفية بأحجامها المختلفة، ولأن خيارات ما بعد الاستقلال لم تكن ناجعة في تأسيس دولة حديثة، بالمعنى الذي تحدث عنه يوماً ماكس فيبر، بوصفها “مجتمعاً إنسانياً يدعي بنجاح احتكار الاستخدام الشرعي للقوة المادية في أرض معينة”، حيث سرعان ما انزاحت إلى شخصنة السياسة، وربط الدولة وقراراتها بالحزب الحاكم وبالزعيم الملهم الذي حرر البلد، أو الأسرة الحاكمة التي تحتكر فعلياً كل الموارد، وتمسك بيدها كل مقاليد النفوذ والسلطة، خلافا للدولة الحديثة، حيث لا يمتلك رئيس الدولة الحكومة والجيش والإدارة والموارد وحتى السكان، وهذه الصفة غير الشخصانية، والاستناد إلى القانون أولاً يعطيان الدولة الحديثة شرعيتها.
وقد أفضى هذا الفشل في بناء دولة الحقوق والحريات خارج الإرادة الشخصية للزعيم والحزب القائد، إلى نشأة نمط من الحكم الاستبدادي المغلق القائم على شراء الذمم، والسعي نحو كسب الولاءات، وأدى إلى نوع من الرهان على الأقليات التي وجدت ضالتها في ممارسة السلطة خارج منطق المواطنة المعتاد، وإنما من خلال النفاذ إلى أجهزة الدولة والتصرف بوصفها قوى ذات مصالح ممتدة داخل أروقة السلطة. وفي حالات أخرى، تم إقصاء هذه الأقليات، واستخدامها فزاعة لإيجاد نوع من الالتفاف حول السلطة القائمة، بوصفها الحامية للمشروع الوطني ضد مجموعات عرقية، أو طائفية، تسعى إلى خدمة أجندات خارجية مفترضة، كما يروج ذلك المستبد الحاكم والدوائر القريبة منه.
لقد تمت شخصنة السلطة وخصخصة وسائل الإدارة وأدوات القمع، لمصلحة جهات معينة فرضت نفسها لاعباً مركزياً محدداً لمصير الوطن بأكمله، وهو ما تمكن ملاحظته في النموذج السوري، والدور الذي لعبته الأقلية العلوية، حين تم اختطاف الدولة لمصلحة الحزب. وربما كانت اليمن من النماذج التي خضعت فيها الدولة لهيمنة القبيلة، ولصراعات الجماعات المذهبية والطائفية. إن سوء بناء دولة ما بعد الاستقلال حولها، بشكلٍ ما، من مؤسسة مركزية شرعية إلى طرف في صراع شامل يشق المجتمع، ويفعل فعله بصورة تدريجية (الانقلابات المتتالية في سورية والحرب الأهلية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات والصراع اليمني في صيغته الحوثية ضد باقي مكونات المجتمع ..) .
ولم يكن ضرورياً أن تكون هذه الدول دائماً ميدانا لحرب مدمرة على الطريقة الصومالية، على الرغم من حصول موجات عنف واضطرابات، إلا أن مؤسسات الدولة تعاني حالة من الاهتراء، وتحولت السلطة المركزية إلى نمط من الحكم المافيوي، يتعاضد فيه أصحاب النفوذ من عسكريين ورجال أعمال فاسدين (على الطريقة المصرية)، أو هيمنة لوبيات أقلوية، تمارس النهب المنظم تحت ستار السلطة الحاكمة.
“فشل الحكام في لحظة التأسيس في بناء دول حديثة، تضمن الحقوق والحريات، وتتعامل مع حاملي جنسياتها، بوصفهم مواطنين متساوين في الحقوق، خارج التوصيف العرقي أو الطائفي”
هذا الفشل في بناء دولة حديثة قائمة على القانون والاختيار الشعبي هو الذي أفضى إلى حالة الاضطراب التي نراها اليوم، إثر انفجار الأوضاع في غالب الدول العربية، فمن خلال الخراب السياسي الذي خلفته الفئة الحاكمة، تشكلت أسوأ الأفكار وأشدها عنصرية، حيث عادت القبلية والطائفية، لتأخذ موقعها بصورة حادة، مستفيدة من ضعف الدولة، ومن مراكمة إرث كامل من الرغبة في الانتقام، ومن الحقد، بسبب التنمية الاقتصادية غير العادلة، وعدم المساواة والفساد وجرائم أجهزة الدولة وعنفها ضد المواطنين. وأخيراً، من التدخل الخارجي من دول أخرى، أو من قوى شبه دولية نافذة، كل هذه العوامل تفسر الصعود القوي لجماعات طائفيةٍ، على نحو ما نرى من هيمنة الحوثيين على العاصمة اليمنية، واختطاف أجهزة الدولة أو تمدد تنظيم الدولة (داعش) في ظل دولة المحاصصة الطائفية التي نشأت في العراق، إثر الغزو الأميركي.
لم تكن هذه الانهيارات المتتالية لدولة ما بعد الاستقلال في المنطقة العربية، حدثاً طارئاً بالنسبة لكل متابع سياسي جاد، فالفوضى تماما كالتنمية، تحدث تدريجياً، وهي تنبني على مراحل سابقة، تشكل الحاضنة الخصبة لها، والتي تمدها بأسباب البقاء وربما الاستمرار، فمع انهيار هيكل الدولة، أو ضعف قبضتها التي كانت ترتبط بسلطة المستبد أو بالحزب الواحد، يبدأ انهيار الإدارة وتظهر الجماعات المسلحة بخلفياتها الطائفية، أو القبلية، أو الإيديولوجية، لتمارس نفوذها، وتفرض الضرائب والقيام بعمليات السلب والنهب (ما جرى مثلا بعد هيمنة الحوثيين على صنعاء، حيث تم اقتحام البيوت والاستيلاء على أسلحة الجيش)، وحيثما تكون الدولة غائبة، تنشأ هذه الجماعات لتحكم العشوائيات، وتحولها إلى شبه دول صغيرة، يمارس فيها زعيم التنظيم نفوذه، ويفرض شروطه وينفذ قوانينه الخاصة.
لقد تحولت دول عربية (خصوصا في المشرق العربي)، في ظل تصاعد نفوذ الطائفة وضعف الدولة المركزية، إلى مجرد كيان رمزي، له علم ومقعد في الأمم المتحدة، لكنه لا يملك قراره الفعلي، وإنما يخضع إلى مزاج زعماء الجماعات على الأرض، وإلى إملاءات القوى الدولية الكبرى على المستوى الخارجي، وضعٌ يجد جذوره في طبيعة تشكل هذه الكيانات السياسية ذاتها، حيث فشل الحكام في لحظة التأسيس في بناء دول حديثة، تضمن الحقوق والحريات، وتتعامل مع حاملي جنسياتها، بوصفهم مواطنين متساوين في الحقوق، خارج التوصيف العرقي أو الطائفي. وفي ظل الفوضى التي تشهدها المنطقة اليوم، وتصاعد نغمة الصراع الطائفي، يمكن التأكيد أنه ليس أمام المنطقة العربية غير التوجه نحو الديمقراطية والتقدم، أو النكوص نحو الطائفية، مع ما يعنيه ذلك من انهيار للدولة الوطنية واضمحلالها، ونشوء كيانات قزمية، غير قادرة على الإيفاء بمطالب الشعوب في الحرية والكرامة الوطنية.
العربي الجديد