الطائفية بين أهل الإباحة وأهل العفة
ياسين الحاج صالح
تتوزع تنويعات سلوك وتفكير المثقفين والناشطين العامين في سورية حيال الشأن الطائفي على تشكيلين عريضين، واحد إباحي وآخر متعفف.
يتناول أهل الإباحة المشكلات الطائفي دون أية احتياطات فكرية أو سياسية أو أخلاقية. يميلون عموما إلى اعتبار الجماعات الدينية والمذهبية طوائف من تلقاء ذاتها، معطيات طبيعية يمكن التقاطها بالأصابع من “الواقع” الخام، وإلى اشتقاق الطائفية من “الطوائف” الطبيعية هذه. كيف يمكن تجاوز الطائفية؟ وكيف نفسر صعودها وهبطها عبر الزمن؟ وقبل ذلك، كيف نطور معرفتنا بها؟ لن نجد إجابات على أسئلة كهذه عند الإباحيين الذين يجمعهم أيضا الاعتقاد بأن المشكلة واضحة لا إشكال فيها، وأن الطائفيين هو “الآخرون”. وسينشغل الإباحيون تاليا بالفضح والتحريض أكثر من المعرفة، وأكثر من تطوير خطط عملية لتطويق المشكل الطائفي والتغلب عليه (نفضل كلمة مشكل مضمنين إياها ما يحيل على مدركي مشكلة وإشكالية، أي مزيجا من عسر واقعي وعسر نظري، نفترض أن الطائفية تعرضهما معا).
أهل العفة بالمقابل ينفرون من الكلام على الطائفية، يفضلون إسدال ستار من الصمت عليها. وينعون على غيرهم الانشغال بها. قلما يمضون إلى حد القول إن الطائفية غير موجودة، لكنهم يتصرفون كما لو أن أجود قول في شأن هذا الموجود هو القول غير الموجود. غير أن الطائفية ظاهرة ثرثارة، لا تكف عن الكلام، وإن من وراء حجاب، وإن كانت لا تصرح باسمها أبدا. الصمت حيالها لا يجدي.
ويشارك المتعففون الإباحيون افتراض أن الطائفية تنبع من الطوائف التي هي نباتات طبيعية. هذا هو موقف “الحس المشترك” الذي لا سبيل إلى تجاوزه دون شغل على الظاهرة.
لكن يشترك الطرفان فيما هو أهم: يمتنع كلاهما عن تطوير أدوات فكرية وسياسية لمقاربة ناجعة للظاهرة. الإباحيون لأنهم يصدرون عن افتراض بداهتها، فيكتفون بالأيدي العارية واللسان العاري عند تناولها، والمتعففون لأنه لا يعنيهم تطوير أدوات للإحاطة بما يجتهدون لإغماض العين عنه.
في المحصلة نبقى عزلا حيال مشكل يشعر أكثرنا بأنه يزداد حضورا وتعقيدا. وحين نضطر إلى مبارحة موقف العفة الكاذبة إزاءه، لا نجد بحوزتنا غير الكلام الإباحي. نبقي مفتقرين إلى التمرس بالمشكل والخبرة المتقدمة به.
شيء شبيه بموقفنا من المشكل الجنسي: ينوس بين كبت ينتحل لنفسه قناع العفة، وبين إباحة تنسب نفسها إلى التحرر. ولعل الأصل في نجوع مدركات مثل الإباحة والعفة لوصف توزع المواقف حول الطائفية يصدر عن أن ما يكتنفها من كبت يضعها في شراكة مع السلوك الجنسي.
وليس توزيع المواقف بين أهل عفة وأهل إباحة اعتباطيا أو مبتوت الصلة بالمشكل ذاته. نميل عموما إلى افتراض أن “مستفيدين” بصورة ما من الأوضاع العامة التي تندرج الطائفية بين آليات إعادة إنتاجها هم من يفضلون التكتم عليها، وأن “متضررين” من تلك الأوضاع هم قد يجنحون إلى مواقف الهتك والإباحة. غير أن الأنسب أن نتكلم بلغة ديناميكية، تفكر في تفاوت عتبات التماهي.
فمن يلقون صعوبة أكبر في التماهي بالأوضاع الحالية تجدهم منجذبين إلى الإباحية التي تقترن بإرادة تغيير تلك الأوضاع، فيما ينحاز إلى التعفف والمحافظة من تنخفض عتبة تماهيهم بالأوضاع ذاتها.
وأيا يكن الشرح، فإننا نخلص منه إلى القول إن الإباحة والعفة موقفان جزئيان، إيديولوجيان، متورطان في مصالح ومواقع خاصة، لا تؤهل بحال لتحليل مقنع الظاهرة ولا لتطوير سياسات عامة تحاصرها. يشهد على ذلك في رأينا أن المتعفف يتحول بسهولة إلى إباحي في مجاله الخاص وحيال من يفترض أنهم خصومه. وأن الإباحي يظهر تعففا لافتا حيال جماعته، لا يكاد يعيب عليها شيئا.
قد يبدو هذا الحكم على السلوك النظري والعملي للنخب السورية قاسيا، إلا أن الواقع أسوأ بكثير.
لقد أضحت الطائفية وباء عاما إلى حد أن تطوير مفاهيم ومقاربات متسقة لتحليلها بات في رأينا مقدمة منهجية ضرورية لكل شغل عام، ثقافي وسياسي. دون مقدمة كهذه نجازف بأن يبقى كل ما نقول ساذجا، بدائيا، منجذبا إلى أوضاعنا الخاصة وولاءاتنا الأولية. طائفيا.
ومثل هذا كثير إن نظرنا حولنا بقدر بسيط من التدقيق. وأكثر ما يفسد النقاش حول الأصولية والإسلامية المعاصرة، على سبيل المثال، هو اختلاطه الكثيف بنوازع متصلة بالطائفية. ولعله لذلك قلما نجد دراسات سورية قيمة حول الموضوع.
وبالمناسبة، إن أهل العفة حيال الطائفية إباحيون عموما حيال “الأصولية”؛ بالمقابل إباحيو الطائفية، الإسلاميون منهم بخاصة، أهل عفاف مطلق حيال التعصب الديني والأصولية. وبينما يفضل الشركاء في هذه اللعبة الفاسدة استمرار التواطؤ فيما بينهم على الغش من أجل أن تستمر اللعبة، قلما تسمع أصوات نقدية ومستقلة تكشف فساد اللعبة واللاعبين. يتجه التفضيل العام إما إلى الإمعان في التمويه، أو إلى مقاربات شكلية وبرانية للمشكل لا تتيح استيعابه وضبطه.
لكن مقاربات مثمرة للمشكل الطائفي لا يمكن أن تبنى إلا عبر مواجهته ووصفه والشغل عليه.
وأول ما يؤمل من الانكباب عليه أن يتيح تطوير الأدوات الفكرية المناسبة لفهمه واقتراح الإجراءات العملية لضبطه وتقييده، أدوات لا يوفرها الإباحيون والمتعففون.
وما يؤمل ثانيا هو أن نتمكن من بناء “خارج” أخلاقي وفكري وسياسي، يسعنا الانطلاق منه لتناول الطائفية بقدر أكبر من الانضباط والتجرد. أعني خارج الطائفية بالطبع، فمن داخلها لا يمكن لأي تناول لها إلا أن يكون طائفيا. وما يمكن أن يكون الخارج هذا غير القيم الإنسانية العامة من مساواة وحرية وعدالة واحترام متبادل..، وغير معرفة تزداد تركيبا، لا تكف عن تطوير تمرسها بما يتيحه التاريخ وعلوم الاجتماع والسياسة من مفاهيم ومناهج، وغير تصور وطنية ديمقراطية مؤسسة على المساواة بين المواطنين وعلى قطيعة حازمة مع كل ممارسة تمييزية؟
وما يؤمل ثالثا هو بناء حركات اجتماعية تعرف نفسها بمقاومة الطائفية. هذا ممتنع في ظل مناخ الإنكار المفروض على واقعات الطائفية.
الطائفية داء اجتماعي خطير، لا يحتاج إلى علاج جراحي أو استئصالي، خلافا لما قد يفضل الإباحيون. غير أن الداء، خلافا لما يفضل أهل العفة إيهام أنفسهم، قائم ومستفحل، وحاجته للعلاج أكيدة. أما المراوحة بين اشمئزاز تثيره في النفس الإباحية ونفاق ينبعث من التعفف فيترك الداء وحده معافى.
موقع الليبرالية