الطائفية كمدخل لفهم السلطة السياسية
عزيز تبسي
تعقب الجريمة الإيديولوجية للفاشية الكولونيالية
لا تكون مقاربة الطائفية في سوريا حلاً لأحجية لغز أبو الهول الرابض على أبواب طيبة،بقدر ما تغدو مجازفة أمنية و اجتماعية مع السلطة السياسية وبعض من قاعدتها،تذكر باللحظة التي يضبط اللص متلبساً بجرمه،وهي عينها اللحظة التي قد تحوله إلى قاتل.
والطائفية أداة أيديولوجية،من أدوات أخرى متعددة لإنتاج عصبية خارج وداخل السلطة السياسية مقدمة لحيازتها والتأثير على خياراتها،ولا تشكل غاية بذاتها إلا بكونها لاشعور جمعي ينظم وجدانيات وعواطف وذكريات جماعة من الناس.وننشد بالحوارات التي تدور حولها تفعيلا للمعرفة المناضلة،بحيث لا تغدو تمارين لغوية وبلاغية ومرافعات حقوقية،إنما تأكيد للمحاولات المتواصلة لمقاربة المشكلة،في تعزيم للإرادة وتبصيّرها، على تحديد أثرها الفاعل على التشكيل الإمتيازي للسلطة السياسية،والمساهمة في حلها في آن،لما نلمس في مخاطرها الراهنة والمستقبلية.
ومواجهة الطائفية الإمتيازية لا يشكل تكتيكاً سياسياً تمليه الحاجات الآنية للانتفاضة الشعبية السورية،وإنما يتأسس على إستراتيجية نضالية مبصرة لأهدافها الوطنية الثورية،عبر كشف دورها التضليلي في الصراع السياسي ومقدرتها على حرفه عن غايته، وذاك مقدمة لتصفيتها ،وإعادة الاعتبار للاستقطاب المؤسس على المصالح المادية ومقارباتها الفكرية والسياسية.
ومن العبث تجزئة المهمات النضاليةوفصلها،بحيث تغدو مواجهة الطائفية الإمتيازية بذاتها،دون ربطها بتوضعها التاريخي المميز ،كعنصر في متحد مع الرأسمالية التبعية والاستبداد ،الحاضنتين لها في راهنيه وضعها.إن مواجهة الطائفية الإمتيازية اليوم لا تعني سوى مواجهة المشروع الفاشي وأدواته،وكشف مخاطرهما.
ولا يعتمد الوصول إلى البنية السياسية –الحقوقية(الشفهية)وهي على تباين مع البنية السياسية-الحقوقية(الكتابية)في الإحالة إلى أنماط أخرى(النمط الطائفي اللبناني/أو النمط العنصري الصهيوني أو غيرهما)فضلاً عن أهمية اعتبارها نماذج مرجعية،بإفتراض مسبق أن للطائفية نموذج مرجعي،فيما التجربة اللبنانية تعيش حالة حرب أهلية مفتوحة، مستترة حينا ومكشوفة حينا آخر،وهذه الميّزة ،تشكل عنصراً جامعاً لعموم السلطات في البلدان التابعة التي تعيش حالة أزمات متجددة، وغياب حلول ثورية تفتح أفقاً جديداً للاستعصاء التاريخي المسيطر.فيما يشكل الكيان الصهيوني حالة استيطان استعماري،يخوض منذ فرضه على جغرافيا المنطقة العربية حرب أهلية في الداخل وحرب استنزاف في الخارج، مما ينسجم مع وظيفته الاستعمارية.
ويمكن اعتبار في سياق المقارنة، تجربة السلطة العراقية-ما قبل الاحتلال الإمبريالي-أقرب للمقارنة مع التجربة السورية.
فالتجربتين المرجعيتين(اللبنانية-الصهيونية) تتميزان بالتطابق النسبي بين الحقوق الإمتيازية المكتوبة-وممارستها،فيما التجربتين السورية والعراقية تتميزان في ممارسة التمييز بوضوح وفظاظة وإنكاره في آن،وتجريم ومعاقبة من يشير إليها.
ملاحظات أولية:
أولاً-مقاربة أبنية السلطة السياسية بالإحالة إلى البنية الطائفية،هو بمثابة الوقوع في عامل التفسير الأحادي،الذي يمكن أن يفسر عنصراً ،لكنه لا يحيط بباقي العناصر(الاستبداد-الرأسمالية التبعية…)،بإعتبار هذه السلطة (استثناء الاستثناء)،الأول بوصول البورجوازية الصغيرة للسلطة،الثاني بتمكنها من الاحتفاظ بها إلى ما يقارب نصف قرن،باستنفار كل الوسائل التي تمكنها من تحقيق ذلك،تحت مظلة قانون طوارئ وأحكام عرفية دائمين.
أن المدخل الطائفي غير كاف لفهم السلطة السياسية وتعقيداتها،وتداخل المصالح الطبقية والسياسية المحلية والعربية والدولية التي تتفاعل داخلها، والتي تظهر في ممارساتها(سياستها الخارجية،تشريعاتها الاقتصادية..)،و تتمظهر وفق تعبيرات متباينة،وأحياناً متناقضة،أما عن اعتبار نظام الحكم طائفي،فهو كذلك دون الاضطرار لإحالة مقاربته إلى نماذج أخرى،تختلف مع غيرها من التجارب بقدر ما تتفق معها كذلك،وهذا ينطبق على رأسماليته واستبداديته ومؤسساته الاقتصادية(الصناعية والزراعية) ونقاباته…الخ،إن ما أنتجته الطغمة العسكرية هو حالة مميزة من الطائفية الإمتيازية.
لكن بالمقابل لا يمكن اعتبار نظام الحكم الذي أنتجه “فريد عصره”وخارج النسق السلطوي الذي أنتجته أنظمة ما بعد الاستقلال في المنطقة العربية،فطائفيته،بمعنى استئثار أقلية دينية أو مذهبية أو قومية بوضع امتيازي في السلطة،تجمعه مع معظم الأنظمة العربية،وبقليل من التحري في تلك الأنظمة نصل إلى النواة الصلبة الإمتيازية في السلطة(طائفية-عشائرية-عائلية..)،ويمكن أن نستثني جزئياً تجربتين(مصر-المملكة المغربية)لتشكّل تاريخي لبورجوازية متوسطة صلبة،ومتانة الدولة الرأسمالية وأجهزتها،وتبرز مشكلة الأقليات(الأمازيغ-الأقباط-البدو…) في سياق مختلف(اضطهادي وتهميشي..)،وتمكن السلطة من السيطرة عليها بوسائل قمعية مختلفة وإيجاد تسويات مؤقتة لها.
ثانياً-لا يمكن البرهنة على فعالية هذا العامل التكويني(الطائفية) للسلطة السياسية إلا بالإحالة إلى الواقع التجريبي،وهو واقع معقد،أساسه إنشاء سلطة موازية لا مرئية للسلطة الظاهرة المرئية،ولكوننا نفتقر للوثائق المكتوبة التي تبرهن على ما نقول،وهي فرصة كذلك تدفع لعدم الاطمئنان للمكتوب والمعلن، بالاستعانة بعناصر إضافية لتوضيح عناصر المشكلة المطروحة،نحن أمام واقع جريمة دون بصمات أو أدلة جرميه واضحة،أو”متفق عليها”،ويتعقد البحث في شروط السلطات المؤسسة على بنى قمعية،حيث جزء من نشاطها يتأسس على إخفاء الجريمة وتعقب كاشفيها،وهذا لا يشمل الأوضاع الطائفية الإمتيازية في أجهزة الدولة فحسب،بل الاقتصاد الموازي(التهريب،تبييض الأموال،تجارة المخدرات……الخ)، الذي تجري مقاربة حجمه وقوته ونفوذ المسيطرين عليه وفق التخمينات(قدمت إحدى المنظمات النقابية دراسة مفيدة عن تهريب المازوت والبنزين إلى الدول المجاورة ورصدت عائداته المالية الهائلة)،وهي وسائل اضطرارية،ينبغي رفدها بما يوضحها من الشفهي والُمعاش(تتكفل الوسائل الرديفة في كتابة التاريخ والوقائع على تظهير الصورة:الأدب”الرواية-القصة”-السينما-صحف المعارضة-المسلسلات الساخرة-النكات-الشهادات الشخصية-الوثائق الرسمية المسربة …)،كل المؤشرات تؤكد على توقيع اتفاقية مع الكيان الصهيوني عام 74 تلتزم بها السلطة السياسية بشكل صارم لا يقبل الحنث وتفوّق تنفيذياً من وقع معه اتفاقيات سلام،لكن لا تتوفر للعموم نصوص الاتفاقية ومحاضر اتفاقيات أخرى مكملة حصلت في بوخارست والولايات المتحدة،فالسلطة السياسية لا كما تُعّرف نفسها وتظهر في شكلها الخارجي العمومي، بل في الآليات الداخلية التي تعبر عن البنى المصلحية،سواء عبرت عن نفسها بوضوح طبقي،أو قانوني…،أو ما يشكل بديلاً عنهما..
فضلت الطغمة العسكرية الاعتماد على نمط استقطابي غير ظاهر(كونه يفتقر لشرعيتها اللفظية،بل يخالفها)،ومغلف على الدوام بسماكات أيديولوجية تحجب حقيقته،هي حقيقة أزمتها التكوينية المتجددة.
فبعد تهور مغرور ،أثناء المواجهات مع الأخوان المسلمين في 79-82 من القرن الماضي،برزت طائفية علنية شرهة وفاجرة عبرت عنها سرايا الدفاع كقوة فاشية حربية وتوأمها القاعدي جمعية الإمام المرتضى بمنطلقاتها الرجعية التي نسفت الشرعية الثورية اللفظية وأسسها الفكرية المنبثقة عن انقلاب 8آذار،برز هذان التشكيلان كتعبير عن الجناح الأكثر فاشية وطائفية في السلطة،ولم يصدر قرار بحلهما إلا بعد حسم الصراع مع ذاك الجناح الذي كان يمثله العميد الركن رفعت الأسد شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد.
وظهور تلك الجمعية وتنامي نفوذها،وهو بالمناسبة غير مقتصر على العلويين حيث ساهمت في إيقاظ العصبيات العشائرية والطوائفية الغافية وإنتاج قيم القرابات الدموية والمصاهرات السياسية وغيرها،وتسببت بصدامات عديدة أخذت في كثير من الأحيان أشكالاً حادة وعنيفة بينها وبين حزب البعث ومنظماته.
وفي رصد واحدة من نتائج الانتصار بقرار حلها،نجاح الطائفية والعشائرية المستترة على الطائفية والعشائرية السافرة،لكون ذاك الخيار(سرايا الدفاع-جمعية الإمام المرتضى) في السلطة عبر عن حزمة متحدة من خيارات سياسية واقتصادية ووطنية.وبذلك هزم الشيطان ليحل مكانه إبليس!!
ثالثاً-لا يمكن الوصول إلى أي نتائج ذات قيمة معرفية،طالما الحوار سيبقى أسير إنكار حقائق باتت في مخزون التجربة اليومية لعموم السوريين،حيث لا يمكن التعويل على “المصادفة” في تكوين أجهزة أمنية-عسكرية ذات سمة طائفية محددة،وهي مصادفة لو تحققت ،تتجاوز قوانين الكون ودقة انضباطه،إن الإنكار يشكل عائقاً معرفياً،وتواطئاً مع الطائفية الإمتيازية ومشروعها الفاشي.
ما يتمتع به العلويون هو حق مؤكد لهم لا بصفتهم الطائفية بل بكونهم مواطنين،ولكن بحجب هذا الحق عن غيرهم،أو تقنينه، يتحول إلى امتياز احتكاري،وتتكرس اللامساواة،رغم أن هذا الواقع التمييزي تجاوز منذ زمن بعيد المؤسسات العسكرية-الأمنية وانتقل إلى مؤسسات الدولة الأخرى الإعلام-التعليم العالي والإلزامي –الصحة….وتفعّل إمتيازياً خارجها(الوكالات الحصرية،الامتيازات الاستثمارية)إحدى نتائجها.
وهذا يحتاج لبيانات علمية توضيحية وحاسمة كمقدمة ضرورية لفهمه ونقده(الشروط الحقيقة للتطوع في الجيش والأمن،والتوظيف في الإعلام ومؤسساته ….)لكن لا يمكن الإستقواء بنقص الوثائق لإنكار الحقيقة التي تتمظهر بأشكال عديدة،وهذا ليس من مستجدات خيارات السلطة السياسية،بل ميول أخذت شكل حتمية إستقطابية لتجاوز مشروعها المأزوم من أساسه التكويني(إنقلاب8آذار).
رابعاً- تناقش الطائفية كموضوع معرفي،وليس كمادة تعبوية في الصراع السياسي الراهن،من هنا ضرورة التحرر من الذاتية البحثية،بمعنى أن يناقش الموضوع بإحالته إلى البنى السياسية-الحقوقية،التي أنتجتها هذه الشريحة من البورجوازية السورية،وعجزها التاريخي عن تكوين بنى أخرى،أي لماذا وجدت تلك الشريحة الطبقية البورجوازية في الطائفية الإمتيازية والاستبداد الشكل الأكثر جدارة تعبيرية لنمط الحكم الذي أنتجته،دون غيرهما من الأنماط السياسية-الحقوقية؟
وطالما للموضوع علاقة بالسلطة السياسية،يدفع للإنتقال إلى الطبقة الاجتماعية التي تعبر عنها تلك السلطة،ولهذه الطبقة:البورجوازية الصغيرة تاريخ،هو تاريخ وصولها إلى السلطة عن طريق الانقلاب العسكري،ولا تاريخ لها قبل ذلك،وبغير هذه الطريقة الانقلابية لا يمكن لهذه الفئة من البورجوازية الصغيرة، أن تصل إلى السلطة،لو تركت قرناً تاماً تنشئ أحزاباً لها، وتحقق ذلك في 8آذار1963على خلفية الصراع على الوحدة/الانفصال،وقدم الإنقلابيون أنفسهم كوحدويين،في مواجهة الانفصاليين الرجعيين الذين تآمروا على تلك الوحدة التي أنجزت مع مصر الناصرية،لكن سرعان ماسيتخلص”البعثيون”من شركاؤهم في الانقلاب وهم “للمصادفة “الوحدويون الناصريون التواقون لإنجاز الوحدة الفورية مع مصر،وأنتج الإنقلابيون البعثيون لفظية وحدوية فاخرة في الشكل انعزالية في المضمون،ظهرت في العداء للوحدويين والتنكيل بهم،وتعقبهم داخل المؤسستين العسكرية والأمنية،وهي ستكون من أوائل عجائب هؤلاء الانقلابين،وستليها العجيبة الثانية، التخلص من قيادة حزب البعث التاريخية المعروفة بالقادة المؤسسون،والإصرار على الحكم باسمهم بعد تخوينهم والتنكيل بأتباعهم،ولن تتأخر العجيبة الثالثة وهي التخوين والتنكيل بالفلسطينيين وقيادتهم السياسية والعزم في الآن نفسه على تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ……وأنتجت هذه التجربة الهزلية المسلحة بقوة نارية لاترحم وسجون لا تنفتح،أنماط من العسكريين خالوا أنفسهم آلهة،وهم لايستريحون أو يستوون على كراسيهم في اليوم السابع كذلك.
لقد تورطت البورجوازية الصغيرة في السلطة،واستنفرت كل الوسائل للاحتفاظ بها،وبدأتها بخيانة أيديولوجيتها وفكرها(حزب البعث،حمل فكراً تحررياً،وحدوياً،عروبياً في أفق قومي..)وتورط معها العلويون،ووقعوا في أسر هذا المشروع المأزوم منذ زمن،ولن ينقذهم إلا فعل ثوري تحرري،يعبر عن نفسه اليوم في الإنتفاضة الشعبية الثورية.
وسيكتشف العلويون متأخرين،كما يحصل في كل التجارب التاريخيةالمماثلة،أن الطغمة العسكرية هي أقرب لأبنائها السياسيين من أبنائها البيولوجيين.
خامساً-تأسس الطابع الإمتيازي على الاحتكار السياسي التام(الحزب الواحد) ،الذي أنتج الاحتكار النسبي للاقتصاد(الدولة الرأسمالية هي رب العمل الأساسي،لكنه ليس الوحيد كذلك)ومع تراجع الدور المهيمن لاقتصاد الدولة بسبب عوامل مختلفة الفساد واحد منها والذي يشمل النهب والسرقة الموصوفة وتهريب الأموال،بالتلازم مع العجز عن المحاسبة،إن لم يكن التواطئ أو الشراكة بين اللصوص….الخ،سيتبين أن “التنانين”الاقتصادية التي زرعتها بخططها الخمسية تحصدهااليوم براغيث!!
تمكن القطاع الخاص من السيطرة على 65% من الاقتصاد السوري،وهذا ما يمكن اعتباره تتويج لتراجع دور الدولة الاقتصادي وانعكاسه على تقلص قاعدة الهرم التمثيلي،في هذه الحالة استعاضت عن فشل مشروعها الاقتصادي،بإنعاش القول الإيديولوجي،وتعوّل الطغمة العسكرية على الإيديولوجية الطائفية لاسترداد ماتفقده بضعف وتهلهل العوامل المادية-الاقتصادية،وبالمقابل توسع في الامتيازات الطبقية للقطاع الخاص دون منحه حقوقاً سياسية وإيديولوجية،باعتماد حزب البعث مركزاً أحادياً لإدارة المصالح،مما حوله إلى وعاء كبير تختلط في جوفه المصالح المتباينة والمتناقضة وكرسه:حزب الأحزاب،من هنا يمكن رصد تراجع بعض الامتيازات التي اكتسبها العلويون في زمان انتعاش الدور الاقتصادي للدولة الرأسمالية…….
سادساً-مايهم بالطائفية،ليس الشعور الجمعي المتراكم والمثقل بالوجدانيات والذاكرة الحقيقية والمزيفة والمشوشة،فهذا سيتكفل به التاريخ وحركته الثورية،هي وحدها من ينتج المصل لمداواة جروح الظلم والاضطهاد والتهميش.لكن مايعنينا هو الطائفية كإيديولوجية غير معلنة للفاشية وأثرها في إنتاج اللامساواة والتهميش والنكوص بالوطنية السورية القلقة والمفتعلة بدورها،إلى ما قبلها.
حلب آذار2012