صفحات العالم

“الطائف” ليس حلاً لسوريا

 

حسام عيتاني

في غياب التصورات الواضحة للنظام السياسي الذي سينشأ في سوريا ما بعد حكم بشار الاسد وللكيفية التي سيجري فيها التوصل الى الحل، يظهر اقتراح عقد مؤتمر “للمكونات السورية” كأنه يكتسب المزيد من المؤيدين.

تقول الفكرة أن القتال قد يستمر في سوريا لأعوام مقبلة وأن احدا من الأطراف لن يتمكن من حسم الصراع في الميدان. عليه، لا بد من تجنيب السوريين المزيد من سفك الدماء والبلاد المزيد من الدمار والجنوح نحو حل يتخذ من التفاوض وسيلة، على أن يشمل ممثلين عن المكونات العرقية والطائفية والعشائرية السورية، للتأسيس للنظام المقبل.

يستوحي هذا الطرح مؤتمر الطائف الذي عقد في السعودية عام 1989 ونجح المشاركون فيه بوضع حد للحرب الأهلية اللبنانية التي كانت قد وصلت في تلك السنة الى ذروة غير مسبوقة من العنف وانسداد الآفاق ما اسفر عن انقسام عميق في مؤسسات الدولة وظهور حكومتين. تكررت المقاربة القائمة على توافق “المكونات” في العراق بعد عامي 2006 و2007 اللذين شهدا انتكاسة رهيبة في العلاقات بين الفئات العراقية، ولم يتحقق بعض التحسن في الوضع إلا بعد صياغة دستور جديد وتشكيل حكومة نوري المالكي والدعوة الى انتخابات عامة.

تنتهي قصص النجاح هنا. فالنموذجان اللبناني والعراقي لاتفاق المكونات الطائفية على اقتسام السلطة السياسية، يبدوان اليوم في أسوأ اوضاعهما. الصراعات الاهلية في لبنان قاب قوسين أو أدنى من التحول الى حرب أهلية مفتوحة. يفاقم من خطورتها أزمة اقتصادية – اجتماعية خانقة تقف حيالها الحكومة الحالية عاجزة تمام العجز. وتتعدد أسباب الاستقطاب والفرز بين اللبنانيين ابتداءً من الثورة السورية وصولاً الى ذعر الجماعات من بعضها البعض، ذعراً غير قابل للاستئصال او للعلاج.

الخطوط العامة للأزمة العراقية الحالية قد تبدو مشابهة لنظيرتها اللبنانية من ناحية افتقاد الاجتماع السياسي العراقي إلى لغة مشتركة وتصاعد الاتهامات بتقديم الولاء للخارج على المصلحة العراقية، وسط تحركات الانبار الرافضة للأمر الواقع وازدياد الأزمة مع إقليم كوردستان حدة.

ثمة عنصر شديد الأهمية يغفل عنه مؤيدو التسوية التي تتخذ من تقسيم السلطة تقسيماً طائفياً وعرقياً عنواناً لها: العنصر الخارجي. ويجدر التذكير في المجال هذا إن “اتفاق الطائف” اللبناني جاء على خلفية تقاطع في المصالح والرؤى بين المملكة العربية السعودية وبين الحكم في سوريا برعاية منفردة من الولايات المتحدة. وانقلب التقاطع هذا بعد غزو العراق للكويت الى تفويض عربي ودولي كامل بالشأن اللبناني، حازه الرئيس حافظ الأسد. أما في العراق، فجرى اتفاق ضمني بين الأميركيين الذين كانوا يتلفهون الى الخروج من المأزق الذي زجوا انفسهم فيه، وبين إيران الساعية الى اكتساب اوراق جديدة في لعبة التوازنات الاستراتيجية مع الغرب. كفل هذا الاتفاق انسحاب القوات الاميركية مقابل اتفاقية أمنية مع حكومة المالكي، وترك يد طهران حرة في العراق.

بيد أن الواقع لا يني يفرض امتحاناته الصعبة التي تغير ما ظهر للحظة كأنه ثابت وراسخ رسوخ الجبال. ففي لبنان، اختفى التوافق العربي والدولي حوله، وباتت سوريا والسعودية في حال فراق بل صراع سياسي. وفي العراق، تبين أن الأميركيين والايرانيين تجاهلوا مصالح الجيران الآخرين كتركيا والسعودية الذين لم يخفوا انزعاجهم من الترتيبات الاميركية -الايرانية.

وكان يكفي أن تطفو على سطح التوازنات الداخلية بين المكونات المذكورة، أية مشكلة في العراق مثل كركوك ونفط الشمال او اتهام نائب الرئيس بالتورط في “الإرهاب”، او قانون الانتخابات في لبنان ودعم الجماعات المختلفة بالسلاح والرجال لطرفي الصراع في سوريا، حتى يبرز غياب الضمانات الاقليمية والدولية للسلم الأهلي في البلدين اللذين يعيشان اليوم أياماً قلقة.

يطرح الوصف أعلاه سؤالاً بسيطاً عن مستقبل سوريا: كيف يمكن تصور العلاقات بين القوى الإقليمية صاحبة المصالح الكبيرة عند بحث اي اقتسام للسلطة بين “المكونات” على الطريقتين اللبنانية والعراقية؟ تعداد القوى المؤثرة في الاقليم اليوم، مثل ايران وتركيا ودول الخليج والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي وروسيا، كاف وحده لادخال الاحباط إلى نفس كل من يأمل بحل سياسي يحظى بغطاء دولي. يقود هذا إلى سؤال آخر: ما جدوى تكرار النموذجين العراقي واللبناني الهشين والخطرين، بل كيف يجوز التفكير فيهما بغياب الرعاية الدولية ولو حتى بصيغتها المؤقتة التي وفرت بعضاً من الاستقرار للبنان، على الاقل، بين 1990 و2005؟

تهافت الحل الطائفي في سوريا يبرر التساؤل عن البديل. والحال أن ما من بديل جاهز الآن في أذهان السياسيين والديبلوماسيين وأن الجمل الانشائية عن التسوية و”الجلوس معاً للبحث في كل شيء”، مجرد كلام لا قيمة له. وعند تجنب الوقوع في مصيدة التشاؤم والتفاؤل المجانيين، يصح الاعتقاد ان البديل يصنع اليوم في عملية تراكمية عالية الكلفة وشديدة التعقيد في ساحات سوريا.

http://www.24.ae/Article.aspx?ArticleId=8340&SectionId=33

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى