صفحات الثقافة

الطابور الذي أشعل ثورة/ فادي سعد

 

لم يكن الطابور الذي أقف فيه داخل مقهى «ستاربكس» لشراء قهوتي الصباحية مختلفاً عن المألوف. بدا كغيره من الصباحات. الشارع الذي أقطن فيه في هذه المدينة الامريكية تغطّيه الثلوج. عواصف الصقيع لا تريد أن تتوقف هنا. لم أكن بحاجة إلى براهين أكثر، لأتأكد من البرود الذي أصاب ضمير العالم. كان يكفي مدينة شمالية كديترويت أن تحدّق في وجه طفل سوري واحد يشكو إلى الله، ليخجل الثلج الذي يغطيها ويتحوّل إلى نهر دافئ من الدمع.

بالرغم من البرد القارس، كان الطابور طويلاً اليوم، والشمس بالكاد قد أعلنت بدء النهار. وقفتُ كالمعتاد في آخر الطابور، أنتظر وصولي مع الآخرين إلى النادل المبتسم دائماً عند صندوق الدفع. اللطف الأمريكي المـُصطَنع المخصّص للمستهلِكين مثيرٌ للأعصاب. أقتلُ وقت الانتظار بتصفّح سريع للمواقع الإخبارية العربية على جهازي الخليوي، والذي اكتسب أهمية مضاعفة منذ بدء الثورة السورية. هناك أرى كلّ شيء، وأسمع بكاء سوريا على الشاشة. لم يعد الصباح يشبه تلك النظرات الوديعة المـُسالمة التي كنتُ أراها في هذا المقهى نفسه قبل شهر آذار 2011. كلّ شيء تغيّر، ما عدا ابتسامة النادل الشاب البلهاء. متأكدٌ أنه لم يعرف يوماً ماذا يعني احتراق وطن.

بالتأكيد، لم أتوقّع أن يعرف أحد هنا، في هذا المقهى الدافئ، خلف غبش الزجاج الذي يراكم لهاث العابرين، كم طفلاً قُتل في سوريا حتى الآن، وكم رجلاً وامرأة قُنصوا هناك. مع ذلك، لمحتُ في إحدى زوايا المقهى، طفلاً برفقة أمه، ينظر إلي بإشفاق وحزن. لا أدري لماذا أحسستُ أنه كان يعرفُ عنّي كل شيء.

تقدم الطابور ببطء. كان أمامي شرطيّ يقف أيضاً في الدور منتظراً. لم أرَ وجهه. فقد تسمّرتْ عيناي على المسدس اللامع الذي يزنّر خاصرته. شرطيٌّ بعدّته الكاملة، ومسدس أسود محشوّ بالتأكيد. الطفل الذي برفقة أمه كان ما زال يرقبنا. أردتُ أن أحكي له عن الرصاصات التي أخبرني جهازي الخليوي أنها اخترقت جسد طفل يشبهه في ريف دمشق. طفل المقهى لم يبدُ خائفاً، مع أننا كنّا في غرفة واحدة بصحبة رصاصات نائمة في خاصرة هذا الشرطي الذي ينتظر معي في هذا الطابور الطويل.

***

«من الآن فصاعداً، ستكون مسؤوليتك شراء الخبز للبيت»، أخبرني أبي. كنتُ دائماً أكره الاستيقاظ مبكراً. أبي يريدني الآن أن أتحمّل مسؤوليات منزلية جديدة. سيكون عليّ الاستيقاظ قبل بزوغ الشمس، أقلّها مرّة في الأسبوع، والوقوف في الطابور الصباحي الباكر لأحد المخابز القريبة من بيتنا في حلب. اخترتُ المخبز الأقرب. ووقفتُ مع وجوه متعبة كثيرة في الطابور الذي يمتد من باب المخبز طويلاً، ومتعرجاً على الرصيف العريض. لم أكن أدري حينئذ، في نهاية الثمانينيات، أن طوابير المخابز ستُقصف بعد أكثر من عقدين من الزمن، لمجرّد أن الناس لم يكتفوا بشراء الخبز فقط، بل أرادوا أيضاً أن يأكلوه بكرامة. لم أكن أدري حينئذ، وأنا واقف في الطابور مُثقَلاً بالنعاس، أتفرّج على السماء متبرّماً من تلك المهمة التي أوكلني بها أبي، أن هذه السماء الصافية نفسها، سيستبيحها يوماً مَن يحكمنا، ليُمطر الموت على طوابير بشرية مثلنا، تنتظر دورها لشراء الخبز. سأبحث لاحقاً طويلاً في التاريخ، علّني أجد حاكماً قتل شعبه وهو ينتظر دوره لشراء الخبز. لم أجد أحداً.

فتح المخبز أبوابه، وأدخَلَ الطابور رأسه في بهو المخبز الضيق. بدأ الواقفون في بداية الطابور بشراء خبزهم، ليعودوا إلى الخارج بأرغفتهم الطريّة، ووجوه صامتة كصمت المصطبات الحجرية التي كانت تنتظر صفوف الأقراص الساخنة، حتى تتخلص من بخارها في الهواء الطلق. تقدم الطابور قليلاً، وبتُّ على مسافة قريبة من باب المخبز، عندما توقفتْ سيارة ذات زجاج داكن «فيميه» أمام الرصيف، وترجّل منها ثلاثة رجال، كلّ واحد بنظارة سوداء ومسدس يزنّر خاصرته. كان الزجاج المظلَّل، والمسدس الذي حرص الرجال على إظهاره، رسالة مخابراتية سورية مألوفة. انقبضَتْ أسارير الطابور. حتى أشجار الرصيف المغبرّة القاتمة الخضرة، بدا على أغصانها الرعب إيّاه. دخل الثلاثة بغضب غير مفهوم إلى بهو المـَخبز، متجاوزين صفّ المنتظرين جميعاً، حتى وصلوا إلى الشبك الحديد الذي يفصل بين الزبائن وأصحاب المخبز. صرخ أحدهم بصوت سمعه الجميع: «بدنا ثلاث ربطات خبز ولاك… على السريع أحسنلك». خيّم الصمت على المكان. العامل الذي كان خلف الشبك الفاصل، اختفى في الداخل في لمح البصر. وبحركات مرتبكة عصبيّة، شرع عمّال المخبز، بعد ترك كلّ شيء آخر، بتحضير طلبية رجال المخابرات سريعاً. لم تمض إلّا دقائق معدودة ثقيلة، حتى ضاق رجال النظام بالانتظار. أمسكَ أحدهم بالشبك الفاصل، وجعل يهزّه بعنف، كأنه يريد خلعه من مكانه. بدا المخبز كلّه على وشك الانهيار، ورجل المخابرات يصرخ: «يا أوباش، وين الخبز. ما بتعرفوا مين نحنا. لك نحن أسيادكم. ولله إذا ما صارت ربطات الخبز جاهزة بعد دقيقتين، رح نهدّ هالمخبز على روسكم كلكم». لم يكن يُسمع من الحاضرين نأمة. كان معظم الزبائن مُطرِقين رؤوسهم، إلّا شاباً في أوّل الطابور، يحدّق في مشهد الذلّ بعينَيْن لامعتَين غاضبتين وتحدٍّ جريء. انتبه إلى نظراته أحد رجال المخابرات الثلاثة. توجّه إليه، وسأله باحتقار: «شوبك ولاك، مو عاجبك؟». لم يرفّ للشاب جفن، وظلّ محدّقاً في وجه رجل النظام، الذي بدا غير مصدّق لهذا التحدي السافر. انهال على الشاب بصفعتَين مدويّتين، ترنّح على أثرهما الشاب، وكاد أن يسقط. لكنه استقام ثانية، وعاود التحديق، دون أن يقول شيئاً، في وجه رجل المخابرات الذي جُنّ جنونه عندئذ، وبدأ يضرب جسد الشاب أينما اتفق، وهو يصيح بصوت مرتجف: «يا ابن الكلب، ع بتتواقح على أسيادك، أنا بفرجيك…».

***

كان الطابور في مقهى «ستاربكس» يتقدم ببطء من شدّة الازدحام. كنتُ ما زلتُ أحدّق في المسدس اللامع على خاصرة الشرطي أمامي. الطفل الذي برفقة أمّه كان ما زال ينظر صوبي من زاويته البعيدة. كان الوحيد ربّما الذي شعر بالرجفة الخفيفة لأوصالي الخائفة من رؤية المسدس. الخوف الذي ما زال ينتابني كلّما رأيتُ شرطياً ولو عابراً في هذه البلاد الآمنة، ولمحتُ شبح مسدّس في خاصرته. اجتاحتني رغبة عارمة باستلال مسدس الشرطي الذي أمامي من غمده والتحدّث إلى المسدس. الشرطي الواقف كغيره في الطابور، بدتْ على وجهه أمارات الملل من هذا الانتظار. لماذا لا يشهر مسدسه في أوجهنا جميعاً، ويحصل على قهوته قبل الجميع؟ أردتُ أن أخبره أنه يستطيع أن يُرعبنا بمسدسه هذا. ربّما لا يجيد استعماله! سأفعل ذلك بدلاً منه حتى أتخلّص من هذه المقارنات. ربّما سيدرك عندئذ سطوة السلاح الذي يحمله! بدا المسدس كأنه في غفوة طويلة. لم أعد أطيق صبراً. أمسكتُ به، وصرت أقلّبه بين يديّ. استفاق المسدس. نظر إليّ متعجباً: «من أنت؟». «أنا تاريخ طويل من الخوف منك»، أجبتُه. «ماذا تريد؟»، قال. «أريد أن أرسلك إلى الجحيم». بدتْ له أجوبتي مسلّية. قال بنبرة ساخرة: «ما زلتَ تؤمن بخرافات كهذه؟». صرختُ في وجه المسدّس: «الجحيم ليس خرافة. هل سمعتَ بسوريا؟ ما رأيك أن تترك حياتك الوديعة هنا، وتذهب إلى هناك». أجابني بهدوء: «يبدو لي أنك شخص معطوب، تملأك التشوّهات. أعدْني إلى مكاني من فضلك، قبل أن تقترف عملاً طائشاً». انفجرتُ في قهقهة مدويّة حزينة:»أنت مسدس عديم الإحساس، بارد، لم تعرف من الحياة إلا الوداعة المـُقرِفة». علَتْ نبرته قليلاً: «أعدني إلى مكاني فوراً أيها المعتوه».

كنا قد وصلنا إلى صندوق الدفع، وابتسامة النادل البلهاء. اشترى الشرطي قهوته وغادر المقهى مع مسدّسه بهدوء.

***

أمسى الشاب على الأرض، يتلقّى الركلات واللكمات. كان كلّما تعب رجل المخابرات من ضرْبه، توقّف قليلاً ليلتقط أنفاسه. يعاود الشاب، من خلف الكدمات والجروح النازفة التي باتت تملأ جسده، التحديق بنظرة التحدّي نفسها في وجه رجل النظام، فيبدأ مسلسل الضرب ثانية، وهكذا. كان رجلا المخابرات الآخران أخرجا مسدسَيْهما، يحرسان الطابور حتى لا يتدخل أحدّ لصالح الشاب وتخرج الأمور عن السيطرة. لكنّ الشاب كان قويّ البنية. بقي صامداً، تعود نظرة التحدّي إلى عينَيْه بعد كلّ جولة من الضرب، حتى بدتْ على وجه رجل المخابرات معالم التعب والانهيار، وتوقف أخيراً عن الضرب. «لا أظنه ينكسر»، قال لزميلَيْه يائساً.

بدأ التململ والهمس الخفيض يتسلّلان إلى الطابور. منظر الشاب الواقف ثانية على قدمَيْه بجراحه المـُثخَنة، قلّلتْ من درجة الخوف لدى الجميع. بدأتْ أصوات بعض الناس الغاضبة والحانقة على ما حدث تعلو. شعرَ رجال المخابرات بأنهم محاصرين الآن في المخبز الضيق مع طابور غاضب. كانوا يرمقون باب الخروج بنظرات خائفة، لكن الطابور كان قد أحاط بهم من الجهات كلّها. خرج عن الطابور الغاضب رجل عجوز، يحمل في وجهه سنوات طويلة من التجاعيد، وفي يده اليمنى عكازة يتوكّأ عليها في مشيته البطيئة. اقترب العجوز من وجوه رجال المخابرات الخائفة، وبصوت عالٍ قال لهم: « كيف تشعرون وأنتم الآن على الطرف المقابل من الخوف؟». بدا على وجهه غضب كان حبيساً لحقبة طويلة. أردف قائلاً: «لقد حانت لحظة العدالة بعد كلّ هذه السنوات الطويلة من إذلالنا. هل أنتم جاهزون؟».

همّ العجوز بمغادرة المخبز. اصطدم بي عند المدخل. سألتُه: «ماذا سيحصل الآن يا عميّ؟». أجابني: «إنّها الثورة يا بنيّ. لم يكن ثمّة مهرب. مع قهر طويل كهذا، كانت آتية لا محالة. اذهب إلى البيت واستعدّ».

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى