الطبعة الأولى لمدينتي القديمة/ حسام موصللي
هنا تشعر أن قنابل الغاز تكاد أن تكون معطّرة، وأن المعركة التي تجري الآن بين المتظاهرين وقوات الشرطة ليست سوى لعبة جماعية سوف تنتهي بعد قليل بضحكاتٍ وعناق ووقوع إحدى الشرطيات في حبِّ الشاب الذي كان مرفوعاً على الأكتاف وصوته يملأ ساحة تقسيم بأكملها، ثم سينقلب المكان عرساً في الهواء الطلق وسيرقص الجميع ويصبح التمييز صعباً بين دموع الفرح ودموع الغاز.
* * *
في شارع الاستقلال، أسير مع أحد الوافدين الأوائل بعد القصف، لنتحدث عن السنة ونصف السنة التي أمضاها هنا، وأحدّثه عن بضعة أيام لي أيضاً، فأنا قد اعتدت المكان خلال فترة لم تتجاوز الساعات. يخبرني صديقي أن قرابة ثلاثة ملايين إنسان يزورون شارع الاستقلال يومياً، وعندما سألته عن السبب الذي يدفع ثلثهم تقريباً إلى ارتداء قمصان ولفحات نادي “جالاتا سراي” لكرة القدم، أجابني أن مباراة تجري الآن بين هذا الفريق و”ريال مدريد” في الملعب الرسمي للنادي الذي يبعد عنّا مسافة عشر دقائق. وقفتُ في مكاني قليلاً أتأمل الناس من كل حدب وصوب وهم يسيرون في اتجاه الملعب ثم قلت لصديقي: “من فضلك، خذ لي صورة تذكارية على الفور، أريد أن أقول لأولادي ذات يوم إن المسافة بيني وبين كريستيانو رونالدو لم تكن أكثر من بضع حارات”، والحقيقة أنني لسبب ما شعرتُ بأن الرجل قد أصبح جاراً لي، وبالتأكيد لن أستغرب إذا ما استوقفني في الطريق وسلّم عليَّ بحفاوة.
* * *
الجميع يحلم بالوصول إلى دولة تمنح مزايا اللجوء الأفضل كأسوج، وألمانيا، والنمسا، وبضع دول أخرى في الاتحاد الأوروبي. ولأن هذا الحلم صار ملازماً لصاحبه حتى في اليقظة مذ غادر الوطن، فإن كل سوري بات في إمكانه الآن التقدم وبكل ثقة إلى أي شاغر لوظيفة استشاري في القانون الدولي الإنساني في دول العالم الأول. أذكر أني تحدثت منذ فترة قصيرة إلى أحد الأصدقاء في إسبانيا عن وضعه الحالي هناك وما إذا كان في إمكانه السفر إلى بلد أفضل، فما كان منه إلا أن أخذ يشرح لي وبإسهاب عن اتفاقي دبلن الأول والثاني وطرق التحايل التي يلجأ إليها المحامون والمهرّبون على حد سواء!
* * *
بعض الأزقّة هنا تشبه تلك الموجودة في بيروت، حيث يتناثر السوريون والفلسطينيون السوريون في شارع الحمراء مثل بيادق الشطرنج التي انتهت مهمتها وخرجت من اللعبة. ريثما يعودون إلى الرقعة، تراهم من بعيد يمارسون الدوران في حلقة مفرغة تبدأ صباحاً بفنجان قهوة في مقهى “يونس”، ومنه إلى فنجان شاي في “تاء مربوطة”، ثم تنتهي الرحلة بكأس من الخمر في شارع البارات، قبل أن يعود كلٌّ منهم إلى عزلته في منفاه. ومع أن شارع الحمراء أقصر من الطريق المستقيم الذي سلكه بولس يوماً من باب الجابية إلى باب شرقي مروراً بسوق مدحت باشا، إلا أن شكل الحجارة لم يختلف يوماً، وما زالت رائحته ليلاً تعبق بالحنين، إلى الأزقة الضيقة في دمشق. كنتُ في كل مرة أعود فيها إلى غرفتي في الأشرفية، أقلب حقيبتي رأساً على عقب وأنا أبحث عن شيء لا أعرف ما هو. كان ذلك قبل أن أدرك أن حقائب السفؤ، مهما كبر حجهما، لن تتّسع للذكريات. وشارع الاستقلال في اسطنبول يوحي بالفكرة نفسها، إلا أنه أطول وأعرض من شارع الحمراء والطريق المستقيم معاً. لذا ستشعر فيه أن هنالك شيئاً جديداً لم تكتشفه بعد. أظن أن بولس يشاركني الشعور نفسه أيضاً.
* * *
بينما كنت جالساً في مقهى شعبي، أشبه بالنموذج الأب لمقاهي دمشق القديمة، لأكتب هذا النص، وأنا أستمع إلى قصيدة “لاعب النرد” لمحمود درويش، تقدّمت حسناء بيزنطية وجلست إلى طاولة أمامي، نسيتُ لوهلة نرسيس ومرآته والأيائل، بل وحتى النرد واللاعب. ولأني كنت أعلم مسبقاً أن طريقي مسدود، فالأتراك متعصبون بشدة تجاه لغتهم ولا يتحدثون غيرها إلا في ما ندر، وددتُ لو أن أحداً لم يخترع لغةً في الأصل، وبعد مشاورات داخلية، قررتُ أن أتربص عينيها لعلها تبصرني، وعندما حانت اللحظة، تقدّمت نحوها غير مصدّق أو مبالٍ لما سأرتجله وقلتُ: “لدينا في سوريا مثلٌ دارجٌ يقول: الناس مقامات، هل لي بأن أسميكِ نهاوند؟”. أصيبتْ في البداية بشيء من الارتباك، ثم ابتسمتْ في وجهي وأجابت بصدق: Sorry I don’t understand.
كاتب سوري
النهار