صفحات الرأي

الطبقة الوسطى مضافاً إِليها الإنترنت/ إبراهيم غرايبة

يدور الإصلاح حول وعي الطبقة الوسطى، للفرق بين ما تحب أَن تكون عليه والواقع القائم، وهي، في ذلك، تبحث عن وسائل تؤثر بها على السياسات العامة والأسواق. لماذا الطبقة الوسطى هي التي تقود الإصلاح؟ لأنها، ببساطة ووضوح، تملك الوعي بما تحب أن تكون عليه، وما يجب فعله لتحقيق ذلك، ولها مصالح أساسية في الإصلاح، لا تتحقق من دونه، فهي لا تملك الموارد التي تستغني بها عن إصلاح الخدمات العامة الأساسية التي يجب أن تقدمها الدولة، فلأجل حماية نفسها، ومصالحها، من الدولة والشركات، تلجأ إلى تنظيم نفسها، والبحث عن وسائل، وقوة تؤثر بها على الأسواق والحكومات .. وهذا هو الإصلاح ببساطة.

أَما النخب القائمة والمهيمنة (النخب بمعنى القادة السياسيين والاقتصاديين) فلا مصلحة لها (غالباً) بالإصلاح والتغيير، باعتبارها مستفيدة من الواقع القائم، أو لأنها، غالباً، تخشى من التغيير أو ضياع مصالحها ومكتسباتها القائمة. وفي أحيان كثيرة، تقوم مصالحها ومواردها على الفساد والاستبداد وغياب العدالة والحريات، فبغير الاحتكار وتهميش المجتمعات، لم تكن نخب كثيرة لتحصل على ما حصلت عليه من فرص ومكاسب.

والفقراء والأَقل تعليماً، وإن كانوا يتطلعون إلى الإصلاح، أَو تحسين حياتهم وفرصهم، في الغالب، لا يملكون الوعي الكافي لتمييز مصالحهم، ويتوهمونها، في أَحيان كثيرة، بتأييد النخب القائمة، والسعي إلى اكتساب حمايتها ورعايتها، أَو أَنهم يعيشون في حالة من التهميش المتراكم والراسخ، ما أورثهم سلبية وعزلة عن العالم المحيط، أَو أَنهم يشعرون بالضعف والخوف، إلى درجة تمنعهم من المشاركة في الإصلاح، والسعي إليه، أَو أَنهم يقدرون أن فرصهم الاقتصادية والمعيشية سوف تبقى كما هي، في جميع الأحوال، ولا يرون أفقاً أو أملاً ممكناً في الإصلاح والتغيير، .. تذكر حالهم بالآية القرآنية الكريمة “ِإلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً”

ويمثل الشباب، وبخاصة الفئة العمرية بين الثامنة عشر والخامسة والعشرين، القاعدة الأساسية والصلبة لأي عملية تغيير، لكنهم، غالباً يتحركون ويفكرون بدوافع الغضب والتمرد، وهذا مورد اجتماعي وثقافي جميل ومهم، بل هو قاعدة رأس المال الإصلاحي في المجتمعات والمبادرات، لكنهم في ذلك تستهويهم الجماعات والجهات التي تقدم الآمال والوعود الكبرى، ولا تكاد تلهمهم الأفكار والبرامج الإصلاحية، بما هي تحسين الحياة والفرص وتكريس قيم العدالة والحياة الكريمة!

وفي هيمنة النخب على المجتمعات ومؤسساتها ومواردها الثقافية والإعلامية، فقدت الطبقة الوسطى قدرتها على التأثير وإيجاد التوازن بين السلطة والمجتمعات والأسواق، بل إِنها فقدت، أيضاً، قدرتها على إنشاء قيمها وثقافتها المستقلة والمتشكلة حول مواردها، وفرصها وأحلامها وتطلعاتها، وفرص توريثها، ونقلها إلى الأجيال التالية، فالشباب ممن ولدوا ونشأوا في الطبقات الوسطى لم يحملوا، في غالب الأحيان، قيم الآباء وثقافتهم القائمة على تقدير الحياة الكريمة، والتمييز بين الأولويات والمصالح الحقيقية والأساسية، وغيرها من الوعود والأفكار المنفصلة عن الإصلاح الحقيقي، أو الإصلاح كما تراه وتؤمن به، وتسعى إليه الطبقات الوسطى، وأَسوأ من ذلك أن فئة واسعة وغالبة من الطبقات الوسطى، وقياداتها،  وجدت مصالحها في التحالف مع النخب ضد طبقاتها، أو ما يسمى في أدبيات النضال والعمل “خيانة الطبقة” وأَلحقت (تقريبا) بالدولة والشركات الثقافة والفنون والرياضة والبلديات والنقابات والاتحادات المهنية والعمالية ومنظمات المجتمع المدني.

وهكذا، تحول الإصلاح باعتباره صراعاً (بالمعنى السلمي الاجتماعي)، أو “تدافع” بين المصالح والطبقات والحلول والأفكار والمبادرات، إلى صراع وجودي صفري مع السلطة والنخب، وهذا أَسوأ ما أُصيب به حراك المجتمعات والطبقات، فقد تحولت النخب إِلى مجموعات مغلقة، تحمي وتحتكر مجموعة كبرى من المصالح والموارد والفرص، بكل الوسائل والقوة الممكنة، بما في ذلك تهميش المجتمعات، وتغييبها، ورفض العدالة في الفرص والتنافس. ولأن الطبقة الوسطى، غالباً ما يتشكل وعيها لمصالحها ولذاتها ووجودها حول مجموعات وقيادات في منتصف العمر، فإنها، بطبيعة الحال، تنزع إلى الانتهازية، أو السلبية، والانسحاب، فهي غير مستعدة، ولا راغبة معارضة أو صراعاً يضر بمصالحها ومكتسباتها، أو يعرضها لأذى جسدي ونفسي، لم تعد مستعدة لتحمله، إن كانت تقدر على ذلك ابتداء ..

وبإفلاس التدافع/ الصراع السلمي، أصبح المجال مفتوحاً للمواجهة العنيفة والمعارضة الجذرية مع السلطة والنخب، وهو ما يقدر عليه، ويؤمن به شباب مشحونون بالغضب، ومزودون بقيم أيديولوجية تقدس الموت، وترحب به؛ ما أَدخل الإصلاح في خيارات مضادة ومحزنة، .. المجتمعات والطبقات تعمل ضد نفسها، وتدمر نفسها لأجل أن تدمر خصومها “علي وعلى أعدائي”.

ولكن الإنترنت تتيح اليوم فرصاً جديدة للطبقة الوسطى للعمل والتشكل، ففي هذه الشبكية للموارد والفرص والأعمال، تنشأ فرص جديدة وأعمال جديدة وقدرات جديدة للتأثير، فلم تكن التقنية، في التاريخ الإنساني بعامة، مجرد تطبيق لاكتشاف علمي، لكنها تنشئ متوالية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، تغير في العلاقات والموارد والفرص والقيادات والتأثير.. والثقافة والقيم!

ما الذي أَنشأته شبكة الإنترنت من قيم وثقافات وفرص جديدة؟ ماذا غيرت/ تغير في تشكلات الطبقة الوسطى، وسعيها الدائم إلى الإصلاح؟ ثمة مساحات واسعة للتأمل والملاحظة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى