الطرقات الآمنة/ عزيز تبسي
في الصباح، يجب النظر لوجوه العابرين الذين يصادَفون كل يوم في الطريق إلى العمل، لأنهم قد لا يصادفون في الأيام التالية.. ويجب التأكد أن كلا منهم في موقعه: الحواجز العسكرية، باعة السحلب وقهوة الإكسبريسو، الشحاذون والشحاذات، عمال التنظيفات، الحاملون على أكفهم الخبز الساخن، التلاميذ والمعلمون المتجهون إلى مدارسهم، المجتمعون أمام الأرصفة بانتظار الحافلة التي ستنقلهم إلى أعمالهم، السيارات التي نزع أصحابها عنها لوحاتها المرورية، واستبدلت دواليبها المفكوكة والمنقولة إلى البيوت، بأحجار، بأمل أنها لن تتعرض للسرقة، والسيارات الأخرى التي قمطت بأقمشة خيام منظمة يونيسيف.. ويعيش أصحابها بالأمل ذاته. كما يجب التوقف أمام أوراق النعوات، لعدّ متأن على أصابع اليد، لمن بقي في المدينة حياً من أهل القتلى، الذين اعتادت مكاتب دفن الموتى تدوين أسمائهم على ورقة النعي، تحت بند أهل الفقيد.. الأبناء، الأخوة والأخوات.. أي عدد المرشحين للقيام بواجبات جنازات لائقة للقتلى الذين يلون.
يجب التأني، قبل الإجابة على استفسار الرجل، الذي يتأبط مصنفاً طبياً يحوي أوراق تخطيط القلب، وصور الإيكوغرافي للقلب ذاته، عن الطرقات الآمنة.
الطرقات الآمنة. يتوجب الاستفسار عن الوجهة لقياس مقادير الأمان في الطرقات التي سيعبرها.. لكن من باب
الاحتياط، لا بد من تأكيد ضرورة الابتعاد عن الدوائر الحكومية، المدارس، الأسواق، المطاعم الشهيرة وعموم باعة الفلافل، المستوصفات، مباني الكليات الجامعية، وسلسلة من الأحياء تبدأ من الجميلية والميدان والسليمانية وصلاح الدين والمشارقة.. ولا تنتهي بالنيال والعزيزية. وحين يستعد للقول: إذاً لم يبق لي مكان للسير إلا بين الغيوم في السماء.. لا بد من كبح واقعيته السماوية ببضع كلمات، دون سوقه إلى هاويات الإحباط. حتى الطرقات إلى الجنة لم تعد آمنة بعدما تنازعتها حواجز بغلالة عقائدية تجبر الذاهبين بأفراحهم إلى تحويل وجهتهم إلى جهنم، وتعقبها حواجز عقائدية أخرى، تفاجئ الذاهبين بخيبتهم وعويلهم إلى جهنم، بضرورة الانعطاف إلى طريق الجنة.. لا شيء مضمونا في الطرقات، لكن يجب استبدالها في اللحظة الأخيرة، وإسعاف سؤاله المرير بضماد عبارة: سأرافقك إلى المكان الذي تريده.
***
ليس أهالي المعتقلين والمفقودين والقتلى من يناقش موضوع الحرب والسلام، ولا الجرحى الرازحون تحت أثقال جبائرهم في المشافي، ولا الذين واللواتي يسيرون بساق واحدة، ولا الذين خسروا بيوتهم، وينامون في الحدائق وعلى الأرصفة، ولا الذين يعيشون في بيوت بلا ماء ولا كهرباء، ولا الذين يحسبون وهم يتحدثون مع أولادهم بصوت عال وهم يعبرون الشوارع، لفرط ذكر المدن الأوروبية التي هزت الوعي الجغرافي الغافي لقرن خلا بحبوب مسكنات اتفاقية سايكس – بيكو وحراسها، أن “غوتنبرغ” تابعة لقضاء جرابلس التي كان يسيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية، وأنّ “بروكسل” تابعة لقوات حماية الشعب “الأسايش”، ولا الذين يلحون على ضرورة الاستعجال في أوراق “لم الشمل” مع إدراكهم أنّه لم يبق شمل ذو عدد ليلموه، وهذا العدد القليل يحتاج لمنظمة دولية بوزن الأمم المتحدة لتجمعه على فنجان قهوة.. يجري بحث موضوع الحرب والسلام عند أهل الحرب والسلام، بينما هؤلاء حطب الحروب والصراعات الدموية، هؤلاء الأشلاء التي تترنح بسكرات النسيان والرعب ليسوا منهم.
***
هناك من قرر اصطحاب أولاده للتنزه في الشوارع، ليعرفهم على المهن الشعبية، وحذاقة كلام البائعين وجماليات عباراتهم، ولم يعد باستطاعته التغافل عن أسئلتهم. كبر الأولاد ويحصلون على العديد من المعلومات من تجوالهم في الشبكة الإلكترونية، ولم يعد جائزاً تقديم أقساط منها تخفي بعض الحقائق التي سيعرفونها بعد بضع سنوات، عن معاني هذا العالم الثابت والمتحرك لعربات وأكشاك وبسطات وحوانيت.. عن الفروقات بين الجيش وقوات الدفاع الوطني، والفروقات بين الحواجز العسكرية الثابتة والمتحركة المعروفة بـ”الطيارة”، وعن معنى الرصاص الملون الذي يتراءى في السماء، والفروقات بين الرصاص المسمى خارق – حارق – متفجر، وبين الرصاص الآخر الذي اكتفى بوظيفة الخارق، وعن الفروقات بين الطائرات التي نسمع هديرها ولا نراها، وتلك التي نسمع هديرها ونراها. ولا بأس من تذكيرهم بين وقت وآخر أن هناك أسئلة يجاب عنها في الشارع، وأسئلة يجاب عنها في البيت.
يسألون وهم يقضمون عرانيس الذرة المسلوقة، خارجين قبل يوم العطلة هذا من المدرسة ودروس القومية والتربية الوطنية والأشعار والأناشيد المدججة بالتفاؤل. في النهاية لا بد من تقديم إجابات، على غرار مقاسات الألبسة والأحذية، ولو أدى ذلك هنا في الشارع كما هناك في الحوانيت، إلى بحث دؤوب عن المقاسات الدقيقة التي تصل لخيبات أمل الشعوب.
شعوب متعبة. وتتعب الشعوب كذلك؟ نعم وتنحني ظهورها، تنقرص فقراتها، يشيب شعرها ويتساقط، ينحسر بصرها، توقف الجلطات دوران دمها، وقد تتسبب بوقف عمل قلوبها، وتنهش أبدانها السرطانات الخبيثة.
***
التغييرات في مكان والتلاعب بالكلمات في مكان آخر. لا يمكن أن تحل الكلمات، مهما حملت من قوة، محل الحقائق والوقائع. تزداد المهام صعوبة بعدما يئس الناس من أي تغيير ذاتي أو غير ذاتي للسلطة. قد يأخذهم الغرور إلى تغييرات أخرى، كتغيير الشعب بصيغة الهجرة نحو شعب آخر، وهجرة الدساتير والقوانين نحو قوانين بلاد أخرى.
وما الطرقات الآمنة لخروج المسلحين من المناطق والبلدات المحاصرة، إلا الطرقات ذاتها التي سيدخل منها مسلحون آخرون إليها. وما الثورات المضادة إلا الثورات ذاتها وقد غادرت أهدافها ومساراتها، وتلبست ثوب أعدائها واستعارت صوتهم ولغتهم وأسلحتهم.
حالة دخلت بقدميها، أو بأحابيل وخبائث ودفع لجوج من دول ومنظمات وتحالفات وجبهات عصر اليأس. عبرت بخبرة ومهارة إلى براءة الشعوب المدججة بالآمال، لتقبض بأكف هصورة على أعناقها، قبل أن تبدأ بمفاوضتها على مقادير الهواء والماء والخبز. لا الله، رغم كل التوسلات التي تعاقبت عليها السنون والقرون، اقتنع بتغيير “ما” بهذا القوم، ولا القوم اقتنعوا بتغيير “ما” بأنفسهم.
* كاتب من سوريا
السفير العربي