صفحات الرأي

الطوبى وطريقها المعبّد بجثث الجماهير/ حسام عيتاني

 

 

تتناول السطور التالية جانباً واحداً أثاره ياسين الحاج صالح في دراسته «خطاب العقل وظهور تيار العقليين»، المنشورة في موقع «الجمهورية» في 24 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وهو المتعلق برؤيته إلى مسألتي التشاؤم والتفاؤل، بمعنييهما السياسي والثقافي.

النقاط الأخرى التي تطرقت الدراسة إليها حول سمات «التيار العقلي» وأثره على الثقافة العربية في الأعوام السابقة للثورات، تتطلب قراءة ونقداً مفصلين لا يتسع المجال لهما ههنا.

بعد تشخيصه لـ «طوبى العقل» التي صنعها محمد عابد الجابري في مشروعه «نقد العقل العربي» وهي طوبى متفائلة وإن كانت مشتقة من «خطاب العقل النخبوي والتشاؤمي عموماً»، واعتباره المشروع المقابل الذي أنجزه جورج طرابيشي «نقد نقد العقل العربي» بداية تحول العقل «تدريجياً إلى أيديولوجيا متشائمة، تزكّي سياسة معادية للديموقراطية وتتهم المثقفين والناشطين الديموقراطيين بـ «الشعبوية»»، يمضي ياسين إلى التمييز «بين تيارَين «يساري» و»يميني»، أو ديموقراطي ونخبوي، بين الثقافويين العرب في العقود الثلاثة السابقة للثورات. التيار الأول معادٍ للنظم السياسية القائمة ومنحاز لعموم السكان، ومحافظ على انحيازاته التقدمية والمتفائلة الموروثة؛ فيما الثاني تيار نخبوي معادٍ للعامّة والديموقراطية، نضاليّ في تشاؤمه، ولا يخاصم النظم القائمة، وإن كان لا يجاهر بموالاتها».

نزعم أن الدقة غابت عن التمييز هذا. ومثلما أمكن للجابري اشتقاق «طوبى العـــقل» مـــن تشاؤمه الأصلي، يمكن الحديث عــــن درجات واشتقــــاقات وأنواع مختلفة من التـــشاؤم والتفاؤل الثقافيين والسياسيين.

نعطي مثالاً: يُجمع الفيزيائيون على أن شمسنا ستنفجر بعد 500 مليون عام وسيطيح انفجارها بكوكب الأرض الذي يتراوح مصيره بين التشظي وبين انعدام قدرته على استضافة أي نوع من أنواع الحياة عليه. يبلغنا العلم إذاً أننا أمام مستقبل قاتل لن تنجو منه الحياة، لا البشرية ولا غيرها. العدم هو مستقبلنا على هذا الكوكب. لكن ذلك لا يمنع استمرار الحياة كما نعرفها وبناء الأفراد والجماعات لمخططاتهم القريبة والبعيدة. لماذا؟ لأن الفكر الإنساني وجد مهرباً من هذا المستقبل القاتم يتلخص في نظرية انتقال البشرية إلى كواكب أخرى قابلة للحياة قبل حلول موعد المحرقة الشمسية. الهرب إلى كواكب جديدة طوبى (يوتوبيا) لا تملك في الوقت الحاضر غير إشارات ضئيلة على إمكان تحققها، فيما يظل مصير الشمس الكارثي أمراً أكيداً.

بكلمات ثانية، ثمة حقيقة موضوعية لا يمكن نكرانها (انفجار الشمس، وفي ما يعنينا هنا: الفشل العربي الشامل) تتباين وجهات النظر في التعامل معها بين من يتجاهلها تمام التجاهل من دون أن تعني له شيئاً وبين من يعلق الآمال على قدرة الإنسان على اجتراح حلول ومخارج مناسبة (الحياة على كواكب جديدة، أو النهوض من الركود العربي في موضوعنا). التفاؤل هنا يرتبط، مثل كل تفاؤل، بطوبى خلاصية تريح المتطلع إليها من العبء الوجداني والمادي الذي يحمل.

بيد أن ياسين يعلم، من دون ريب، أن الطوبى ليست إلا الوجه المقابل للجحيم على الأرض. وطويلة جداً لائحة الأدبيات التي تربط بين الدعوات الطوباوية وبين انقلابها الملازم لها إلى أنظمة استبداد وقمع وقتل معمم، لسبب بسيط هو ارتباط الدعوات الطوباوية بالأيديولوجيات الشمولية، من هتلر وستالين وبول بوت إلى صدام حسين وحافظ وبشار الأسد وأبي بكر البغدادي.

لنعالج الأمر من زاوية ثانية. يقول ياسين بالتمييز بين تيارين بعينهما باليساري – الديموقراطي – المتفائل، واليميني- النخبوي – المتشائم. نزعم أن تعسفاً يخيم على التمييز هذا.

لنأخذ التجربة الشيوعية عيّنة. كان ستالين من كبار المتفائلين التاريخيين. وكان يسارياً طبعاً، ولم يكن فقط متعاطفاً مع الجماهير، بل كان «أبا الشعوب الصغير» بشحمه ولحمه، بل إنه أسس دولاً اعتنقت كلها «الديموقراطية الشعبية» من ألمانيا الشرقية إلى كوريا الشمالية. في المقابل، وجدت في ألمانيا مدرسة فكرية تشاؤمية نخبوية، هي مدرسة فرانكفورت الشهيرة. السؤال الذي يبرز هنا، من خدم أكثر المصالح الأبعد مدى للانحياز إلى الناس، من نظّم معتقلات الغولاغ وأعدم مواطنيه بالملايين مدعياً الحرص عليهم أم أولئك الباحثون المتشائمون الذين فروا من النازيين إلى أميركا وعادوا بعد الحرب العالمية الثانية ليضعوا بعض ألمع الكتب في النقد الثقافي للفكر المهيمن على الغرب؟

تنهض هنا فكرة الطوبى مجدداً. لا يصـعب على التفاؤل التاريخي المفضي إلى طوبى أن يعبد طريقه بجثث الملايين على غرار ما فعل ستالين والمتفائل الآخر ادولف هتلر الذي كان محباً للجماهير أيضاً. ولعلنا نقترح على ياسين إبدال صفتي التفاؤل والتشاؤم اللتين استخدمهما في ورقته بعبارتين قد تكونان أدق في وصف بعض المثقفين العرب والسوريين الذين يناقشهم وهما «الاستعلاء والتواضع». هاتان الصفتان تبقيان المسألة في بعدها الفردي.

نقطة أخيرة تستحق نقاشاً. يدعو إلى التساؤل العميق كل كلام عن الانحياز إلى الناس، هكذا على إطلاقه. لقد بالغ المثقفون الذين تتناولهم دراسة ياسين الحاج صالح في شيطنة الشعبوية، وبالغ غيرهم في تصويرها منبع كل الشرور والآفات. والآن ينبغي أن نضع «لكن» كبيرة. فما يجري في العالم العربي، قبل الثورات وبعدها، قبل الاستقلال عن الانتداب وبعده، قبل النفط وبعده، قبل الحروب الأهلية وبعدها، يدعو كله إلى التفكير عميقاً بأحوال «الناس» والشعب والجماهير والمجتمعات. المسؤولية عن السلسلة الطويلة من الإخفاقات والهزائم والفوات الحضاري والتاريخي، لا يتحملها أفراد هبطوا بالمظلات من كواكب بعيدة وملأوا الدنيا تآمراً على الشعب الطيب البسيط وباعوا ثرواته واستغلوا مقدراته، على ما تود إقناعنا أسطورة شعبوية يروجها الطغاة العرب وضحاياهم في آن. بل يتحمل جزءاً ليس باليسير منها الشعب ذاته الذي كلما أتيحت له فرصة للتعبير عن رأيه، اختار الخيار الأسوأ. لائحة الانتخابات الحرة والنزيهة التي جرت في بلدان الثورات العربية دليل صادم على ذلك. نقد السلوك المهيمن على ثقافات الشعب والناس ليس دائماً خياراً تشاؤمياً يمينياً نخبوياً.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى