الظواهري مؤنّباً داعش/ عمر قدور
بعد نحو سنتين من تاريخها، تتسرب من أرشيف داعش رسالة زعيم القاعدة أيمن الظواهري المؤرخة بتاريخ 24 شوال 1434 هجري(٢٠١٣ ميلادي). ومع أن الافتراق بين التنظيم الأم والفرع غدا نهائياً منذ ذلك الزمن، فضلاً عن الاشتباكات التي تُستأنف بحسب تقلب الحال بين داعش والنصرة، إلا أن رسالة الظواهري لا تزال محافظة على منطقها بالحجج الفقهية التي يسوقها، مثلما لا تزال راهنة بمنطقها السياسي المغاير لنهج داعش. الأهمية هنا تأتي من نقاش ما يُسمى “أخوة المنهج”، أي الاختلاف على أرضية واحدة، بما يخلخل الأخيرة بعدّها أرضاً تكفيرية لا تستثني أحداً من الواقفين عليها.
نحن أمام وثيقة تكشف عن تمرد الابن على الأب، وفي حين يظهر من رد الظواهري على رسالة لم تُنشر بعد عقوقُ الولد وقلّة تهذيبه فإن المجادلة تكشف أيضاً عن توسل مرسلها لغةً شديدة التهذيب، تليق بمن يعدّ نفسه أميراً على حافة الهزيمة. ذلك لا يمنع الظواهري من تأكيد إمارته، على رغم تلقيه إهانة واضحة بأن مخاطبه أصلاً لم يكن البغدادي وإنما نائبه، أي أن البغدادي لم يتنازل بالرد على رسالة سابقة لمن يُفترض أنه صاحب البيعة في تنظيم القاعدة، الأمر الذي اقتضى تأكيداً على هذه النقطة. فالظواهري كما هو معلوم كان قد دخل حكَماً في الشقاق آنذاك بين النصرة وداعش، ويظهر من ردّه أن قادة داعش نظروا إلى حكمه كمجرد رأي في خصومة، لا بوصفه قراراً من أمير ينبغي الأخذ به.
من خلال التأكيد على أمارته يتصدى الظواهري لأمر بالغ الأهمية يتجلى في سعي “تنظيم الدولة” إلى ابتلاع “القاعدة”. فهو يشيد ثانية بدور التنظيم في “صد الحملة الصليبية على قلب العالم الإسلامي، وفي “التصدي للحملة الصفوية”. ذلك يقتصر على العراق فحسب، أما في الشام فهو يخاطب نائب البغدادي قائلاً: “هل تريد منا أن نرضى بمن يتسلط على أهل الشام بلا مشورة؟”. وهنا يؤكد على قراره السابق بحل “تنظيم الدولة في العراق والشام”، بذريعة تعدي التنظيم على أهل الشام من دون مشورتهم. لكن من المرجح أن الظواهري قد لمس في خطوة البغدادي تمدداً غير جغرافي وحسب، وإنما هو تمدد في المقام الأول على حساب “القاعدة”، ومن نافل القول أنه لن يتمتع بعدها بسلطة الأمير على تنظيم منافس.
بإسهاب منطقي يفنّد الظواهري مسألة إعلان تنظيم “الدولة” في الشام والعراق، وبأسئلة من قبيل: هل الإمارة مسابقة أو مباراة من يعلن أولاً يكون الأمير؟ ثم هل هي دولة على جماعة أم دولة على إقليم؟ إن كانت دولة على جماعة فهي من عجائب الأمور. وإن كانت دولة على إقليم فكيف تتولون إمارة إقليم لم تستشيروا أهله؟ ثم هل الدولة يبايعها الناس أولاً؟ أم تقام الدولة ثم تُجمع لها البيعات من هنا وهناك؟ غير أن ما يكسر هذا الاستنكار المنطقي هو ما يضيفه أخيراً عن حرج “القاعدة” أمام أمير المؤمنين، أمير طالبان الذي سبق للقاعدة مبايعته. ولئن أتت المبايعة في ظل حكم طالبان إلا أنها انتهت أخيراً إلى استمرارها وهو أمير على جماعة مُطاردة.
في الموضوع الشيعي أيضاً تكشف رسالة الظواهري عن اختلاف تعود جذوره إلى أيام “الزرقاوي”، حيث يشير إلى أن بيعة الزرقاوي لأسامة بن لادن تتضمن الكف عن استهداف المدنيين الشيعة، والاقتصار على قتالهم ضمن أجهزة الحكم العراقي، إذ يفرّق بين ما يسمّيه “الأنظمة المرتدة” و”الطوائف المرتدة”. يستحضر الظواهري ابن تيمية الذي أوصى بتشتيت شمل الشيعة، لئلا يشكل تجمعهم خطراً على السنة، كما يستحضر مقولات أخرى ليقول إن دماء عوامهم معصومة بـ”الجهل”. ولعل الموضوع الشيعي، وما يبدو أنه اعتدال من القاعدة إزاءه، من أحد أسباب تسريب داعش الرسالةَ في ظل الاحتقان المذهبي الحالي، مع أن الظواهري يُثبت بالسياسة أيضاً انعدام المنفعة من استهداف “عوام” الشيعة وحسينياتهم. لكن العبرة هنا في جمهور المتطرفين الذي يتوجه إليه داعش، وربما في جمهور “القاعدة” نفسه، ذلك الجمهور الذي قد يرى تخاذلاً من قبل الحرس القديم للتطرف.
هي طرفة حقاً أن يبدو الظواهري سياسياً ومعتدلاً بالمقارنة مع البغدادي، لكن تحتها يمكن تبصّر ما كان يتطيّر منه الأول، وأثبتت أحداث السنتين الأخيرتين أنه واعٍ للانهيار الذي سيصيبه جراء مزاودة داعش. ربما لم يخطر في بال الظواهري أن تتمدد دولة التنظيم إلى درجة أن تكون لها ولاية باسم “ولاية خراسان”، بعد أن كان “الأخوة” في خراسان هم المرجعية التي يتواضع أمامها شيوخ داعش. وبالطبع لم يكن يخطر في بال الظواهري أن تُعلن الخلافة، وأن يصبح إعلانها بريقاً يستقطب تنظيمات بأكملها كانت تتبع القاعدة من قبل، وصارت دولة الخلافة قِبلتها الجديدة. بالأحرى لقد كان تمدد داعش في الشام أول غزو يقوم به لا لتهديد الإسلاميين فيها وإنما لبدء النهش في جسد القاعدة ككل، وسنرى لاحقاً استمرار ذلك من خلال استقطاب “المجاهدين” الذين كانوا ركيزة القاعدة في بلدان الغرب، وجلبهم لمصلحة التنظيم في العراق والشام. ولئن كانت ولاية خراسان بمثابة تحدٍّ معنوي للقاعدة وطالبان في معقلهما فقد لا يبقى الحال هكذا مع تعثر الحلف ضد داعش، وقد يتطلب ذلك انتباهاً أفضل إلى المكاسب التي يحققها التنظيم في أواسط آسيا وشرقها.
بالتأكيد ثمة مستفيدون كثر من انهيار القاعدة، ولو أتى بأيدي أبنائها الأكثر تطرفاً. بل لعل العامل الأخير لا يخلو من منفعة فرز المتطرفين بغية تسهيل “التعامل” معهم أو القضاء عليهم. هو ليس بالانقلاب الداخلي المحض، طالما أن بروز داعش وتمكنه يلفهما العديد من الأسئلة، وطالما أن المستثمرين في تقوية داعش ليسوا في وارد الإجابة على أيٍّ منها.
المدن