العالم العربي: العسكر والسلطة في مرحلة ما بعد التوريث
فريد الخازن
في العالم العربي حلّت اليوم الانتفاضات الشعبية مكان الانقلاب العسكري، والواقعية السياسية والمصالح مكان التغيير الثوري، وواقع العولمة والاسلام السياسي مكان القومية، والانقسام المذهبي مكان “العدو المشترك”.
لم يغب العالم العربي عن المشهد الذي طغى على الحياة السياسية في خمسينات القرن المنصرم وستيناته وتمثل بوصول العسكر الى السلطة في عدد كبير من الدول في اميركا اللاتينية وآسيا وافريقيا، وحتى في اوروبا الشرقية، وان في ظروف ولأسباب مختلفة. هكذا دخل العالم العربي نادي الانظمة العسكرية من الباب الواسع، وهي التي ارتبطت في نظركثيرين من العرب في مرحلة ما بعد الاستقلال، بقيم الحداثة والتقدم. وتميزت تلك الحقبة بقيام الدولة المركزية الساعية الى تحرير الشعوب من “الانظمة الرجعية” والتصدي لأعداء الامة في الداخل والخارج.
شاركت انظمة الحكم الثورية في العالم العربي الانظمة العسكرية في دول اخرى تبنيها ايديولوجيا اليسار بتلاوينه المختلفة وارتباطه الوثيق بالاتحاد السوفياتي في زمن الحرب الباردة. الا ان الانظمة العسكرية في العالم العربي كان لها خصوصية، ان لجهة ارتباطها بالقومية العربية الداعية الى استعادة وحدة الامة، او بالنسبة الى النزاع العربي- الاسرائيلي. فما من نظام اقليمي خارج الاطار العربي كان في صلب شرعيته وحركته السياسية مسألة سياسية- ايديولوجية، جامعة وخلافية في آن واحد، كالقومية العربية، او نزاع عسكري اقليمي كالنزاع العربي- الاسرائيلي، وهو لا يشبه في جذوره التاريخية ومساره وتداعياته أياً من النزاعات الاقليمية المعاصرة.
وخلافا لانظمة عسكرية في مناطق اخرى، كان للعسكر في العالم العربي قائد، جمال عبد الناصر، رئيس الدولة الاكثر نفوذا في المنطقة، وان ناصبته بعض الانظمة العداء وأيدته انظمة اخرى. الواقع ان النموذج في القيادة والمبادرة في العالم العربي تمثل بمصر عبد الناصر. الا ان وصول العسكر الى السلطة عبر الانقلاب بدأ قبل عبد الناصر: في العراق في مطلع الاربعينات وفي سوريا، بدءا بالانقلابات الثلاثة المتتالية في العام 1949. لكن بعد انقلاب الضباط الاحرار في 1952 وبروز عبد الناصر كزعيم عربي تحدى الغرب بالتصدي لحلف بغداد في 1955 وأمّم قناة السويس واسقط العدوان الثلاثي في 1956، بات لحكم العسكر شرعية شعبية ساهمت في اعطاء زخم كبير للطروحات القومية، فكانت التجربة الاولى للوحدة بين مصر وسوريا في العام 1958 في اطار الجمهورية العربية المتحدة.
اما حرب اليمن في الستينات فكانت امتدادا لنزاع مفتوح بين الانظمة الثورية المعسكرة بقيادة عبد الناصر والانظمة المحافظة بقيادة المملكة العربية السعودية. كما شهدت بعض الانظمة الملكية انقلابات عسكرية، منها ما اطاح الهاشميين في العراق في العام 1958، ومنها ما بقي في حدود السيطرة، كما في الاردن. ولاحقا، شكل عبد الناصر المثال بالنسبة الى العقيد القذافي الذي اطاح النظام الملكي في ليبيا في 1969 واعلن ولاءه لعبد الناصر.
وجاءت الهزيمة العربية المدوية في العام 1967 لتقلب المقاييس رأسا على عقب. فها هو جيل القادة العرب الذي ثار على “جيل الهزيمة” في نكبة 1948، يُلحق الهزيمة بالعرب وهو في ذروة السلطة والنفوذ. فبدل ان تساهم نكسة العام 1967 بتظهير واقع عربي جديد، ادت الى تحكمّ الانظمة العسكرية بالسلطة، ونتج عن هذا الواقع صراعات داخل الجيوش وداخل الحزب الحاكم لاسيما في سوريا والعراق.
ساهمت حرب 1973 في انتشال العرب من الهزيمة، واعطتهم انتصارا في ساحة المعركة وانجازا معنويا كبير،ا اسقط الادعاءات الاسرائيلية بالتفوق العسكري بعد ان كان الاعتقاد الاسرائيلي راسخا ان العرب غير قادرين على اتخاذ قرار الحرب بعد ست سنوات على الهزيمة. ومع تراجع الايديولوجيا وحدّة التنافس بين القطبين في المنطقة، وبعد تطبيع الوضع القائم على الجبهات مع اسرائيل، لاسيما بعد توقيع مصر معاهدة سلام مع اسرائيل، ازدادت الانظمة الحاكمة استبدادا وباتت مفاصل السلطة كلها في قبضة مجموعة قليلة من اهل الحل والربط داخل العائلة او العشيرة او الطائفة. هكذا انتقلت الانظمة من الثورة الى التوريث العائلي لا في دول المشرق العربي فحسب بل ايضا في مصر ودول اخرى.
وعلى اثر التحولات التي حصلت داخل النظام الاقليمي العربي بعد حرب 1973، اندفعت الجيوش العربية في اتجاه حروب اخرى، ابرزها الحرب العراقية- الايرانية التي دامت ثماني سنوات، في زمن الثورة الاسلامية في ايران. اما فائض السلطة في الانظمة القومية المعسكرة فما لبث ان امتدّ الى دول الجوار، فدخل الجيش السوري في صدام عسكري مع المنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان في منتصف السبعينات وأحكم سيطرته على البلاد طوال ثلاثة عقود، واحتل صدام حسين الكويت وضمّها الى العراق وألغى كيانها السياسي والجغرافي.
في العقدين الاخيرين اصبح دور الجيش في انظمة الحكم المعسكرة في العالم العربي شبيها في بعض جوانبه لدور الجيش في انظمة الحكم في اوروبا الشرقية عشية انتهاء الحرب الباردة وانهيار هذه الانظمة في اواخر ثمانينات القرن الماضي. ففي هذه الدول، كما في عدد من الدول العربية، تراجع دور الحزب الحاكم وابتعد الجيش عن القرار السياسي وحل مكان الحزب والجيش معا الاجهزة الامنية، التي اصبحت صاحبة القرار الحاسم في الشؤون السياسية والامنية المتداخلة. اما حماية النظام فتولتها الاجهزه الامنية والحرس الجمهوري، المنفصل عمليا عن الجيش النظامي. وجاءت الثروات النفطية في بعض الدول، كالعراق وليبيا، لتعطي الحاكم واجهزة المخابرات مزيدا من القدرات والنفوذ.
وفي السنوات الاخيرة تراجعت القضايا الوطنية الجامعة في العالم العربي، وفي مقدمها النزاع العربي- الاسرائيلي، وكذلك تبدلت معالم السياسة الدولية في المنطقة لاسيما بعد الغزو الاميركي للعراق واطاحة نظام صدام حسين وانهيار الدولة والجيش في سابقة لم تشهد مثيلا لها المنطقة ولاحتى اي نظام اقليمي آخر.
ومع هبوب رياح التغيير في العالم العربي في مطلع العام 2011 لم تكن الجيوش العربية في حالة ثورية بل في انضباط كامل، وهي جيوش باتت كبيرة العدد، ومنها ما يدير مؤسسات وصناعات ضخمة لاسيما الجيش المصري، خلافا لحالة الجيوش العربية في مراحل سابقة. واقع العسكر في العالم العربي شديد التنوع. ففي مصر بلغت المؤسسة العسكرية درجة عالية من الاحتراف بعيدا من السياسة. وعلى رغم دعم الجيش المصري للنظام الحاكم، فان الفارق شاسع بين تأييد النظام وتبني التوريث. والامر عينه ينطبق على الحالة التونسية حيث الجيش موال للنظام، الا انه في نهاية المطاف ليس حاميا لاسرة بن علي وزوجته.
يبقى ان العامل الحاسم في دور الجيش في الانتفاضات العربية ارتبط بطبيعة الدولة والمجتمع وبالعلاقة بين الاثنين. ففي ليبيا تم اختزال الدولة والمجتمع بشخص القذافي لخدمة مصالحه ومآربه مع افراد اسرته والمقربين منه. وفي اليمن، الانقسام العشائري والمناطقي والصراع على السلطة وصلت تداعياته الى الدولة ومؤسساتها، ومنها الجيش، قبل تحولات الربيع العربي. وفي الاحداث الاخيرة ازدادت الهوة اتساعا، وهي لاتزال قائمة حتى بعد التسوية التي ازاحت علي عبدالله صالح عن السلطة ولم تنه النزاع الداخلي داخل الجيش وخارجه. وفي البحرين أخذ الانقسام المذهبي مداه في السنوات الاخيرة قبل الربيع العربي وتفاقم بعده، وتم الاستعانة بجيوش دول مجلس التعاون الخليجي لوضع حد للانتفاضة الشعبية ضد النظام الحاكم.
اما في سوريا فالوضع مختلف بالمقارنة مع اي من حالات الدول العربية التي كانت مسرحا لانتفاضات شعبية. لقد دخلت الازمة في سوريا في نفق مظلم لا حدود له بعد ان اصبح النزاع غير قابل للحل على المستويات الداخلية والاقليمية والدولية. فالانقسام السياسي والمذهبي تفاقم، داخليا واقليميا، والانقسام الدولي يشبه في حساباته وتعقيداته مرحلة الحرب الباردة. ففي حين ان النظام والقوى العسكرية والامنية لاتزال متماسكة على رغم التصدعات المتزايدة، الا ان المواجهات متواصلة، لابل فانها تجنح في اتجاه الحالة العراقية بعد 2003، لكن من دون “راع” مباشر لضبط النزاع عسكريا وسياسيا، خلافا لدور “الراعيين”، الاميركي والايراني، في الحالة العراقية.
لعل المتغير الاساس في دور العسكر في زمن ما بعد الربيع العربي يطاول فعليا دور الاجهزة الامنية في “النظام العربي الجديد”، في حال تبلورت معالمه واتضح مساره. الجيوش العربية هي اكثر احترافا وانضباطا اليوم من اي وقت مضى ، الا ان عناصر التغيير تبقى مرتبطة بعوامل ثلاثة: طبيعة المجتمع لجهة الانقسامات الداخلية، وشرعية مؤسسات الدولة وفاعليتها، والعلاقة بين المؤسسة العسكرية والاسلاميين الذين تسلموا السلطة في مصر وتونس وهم على مشارفها في دول اخرى.
ومن جديد تبرز الحالة المصرية كنموذج لحالات التغيير في العالم العربي ان في حقبة مجالس الثورة في مراحل سابقة أو في زمن الربيع العربي. ففي مصر مجتمع متجانس ومؤسسات دولة لها تاريخها وموقعها في الحياة السياسية، كما ان لمصر تأثيرها في المحيط العربي وتجمعها معاهدة سلام مع اسرائيل. وفي مصر مؤسسة عسكرية فاعلة ومؤثرة في الحياة السياسية، وهي التي تولت السلطة بعد سقوط نظام حسني مبارك، ولا يستطيع اي فريق حاكم ان يتجاوزها. وفي تونس حالة مشابهة لجهة تجانس المجتمع ووجود مؤسسات دولة فاعلة. اما في الدول العربية الاخرى، فالاوضاع مختلفة، قبل الربيع العربي وبعده، وعلى المستويات كافة: المجتمع، الدولة، والمؤسسة العسكرية.
لقد حلت اليوم الانتفاضات الشعبية مكان الانقلاب العسكري، والواقعية السياسية والمصالح مكان التغيير الثوري، وواقع العولمة والاسلام السياسي مكان القومية، والانقسام المذهبي مكان “العدو المشترك”.انه عالم عربي متغير، فيه من الماضي ما يكفي ليؤجج النزاعات، ومن الحاضر ما يكفي لينتج آليات جديدة في ممارسة الحكم الديمقراطي لكن بمعايير وأسس لاتزال موضع أخذ ورد بين الحكام الجدد ومعارضيهم. لقد ادخل الربيع العربي تحولات غير مسبوقة، الا انه ايضا نقل شقوق العالم العربي ومشاكله وتناقضاته من السر الى العلن.
النهار