العالم يحتفل بمئوية «عبقري» السينما أورسون ويلز: أعظم مخرج عرفته السينما حتى الآن/ بول شاوول
قد يكون أورسون ويلز (مواليد 1915) من أندر المخرجين الذين استمروا في هالة الأسطورة مئة عام، وبقوا أكبر من ذاكرة أرشيفية في تاريخ أثينا، وأكثر من محطة «استثنائية»، وأهم من منظرين للسينما، ولمدارسها، ولاتجاهاتها. ارسون ويلز هو اورسون ويلز، جعل تصنيفه فوق التصنيفات، وفوق التيارات، والبيانات.
أفلامه منذ بداياته مع تحفته «المواطن كين» كانت اعادة «خلق» للسينما في أطوار تطورها وانفجارها. كأنه «رمبو» من حيث تجلي موهبته المبكرة، ورؤياه المختلفة، وصدماته الفنية، ونسفه كثيراً من «القيم» السينمائية الهوليوودية السائدة.
في السابعة عشرة من عمري، اكتشفت هذا العملاق، وعندما شاهدت فيلمه «المواطن كين»: صدمة ولا كالصدمات أحدثت دوياً في داخلي، وأسئلة صعبة، وحركت أسئلة جديدة، حول السياق السينمائي، والعقدة، والصورة، والأداء، لكن كمثل هذه المتعة الغامضة، المحاطة بالأسرار والتأويلات، والدهشة، لم يكن لي سوى الاستسلام له، تاركاً حواسي كلها تذوب في هذا الفيلم.
صحيح أنني لم أكن على تراكم كبير في الثقافة السينمائية، إلا أن اورسون ويلز، وكساحر، خرق كل الهشاشات الى ما هو جوهري ومجهول داخلي. المجهول يطرق عيني. الايقاع يمس جسدي. الأداء يغمرني بغربة فيها من اللذاذة ما يجعلها إلفة عصية عن الإحاطة. وأتذكر أن حضوري هذا الفيلم، قذفني الى السينما كفن، وكعالم أحياناً بلا أبجدية، وأخرى بأبجديات غريبة. حرضني على نفسي. اجتاز حدودي، ودفعني الى اكتشاف هذا المناخ السينمائي الثري. وعندها بالذات، صرت أعرف أن هناك سينما غير التي تعودناها في طفولتنا، وفي مراهقتنا، من أفلام الكاوبوي، الى سابو طرزان، الى روبن هود، الى لوريل وهاردي، وأفلام المغامرات، أي السينما التي تحيي الطفولة في داخلنا، والطراوة في حواسنا، السينما السهلة، الجميلة، المسلية، بمغامراتها، وغراباتها، السينما المعروفة، التي لا تحتاج سوى الى زمن حضورها، ثم تتلاشى، بلا اثر ولا وقع، سوى ما يدغدغ أعمارنا. وهكذا رحت وبحس التحدي، اختار الأفلام «الصعبة»، الأفلام التي تريد أن تقول شيئاً، بطرائق مجازية، أو ضمنية، أو دلالية. تعرفت الى كبار يشبهونه كجوزيف لوزي، (صاحب «الخادم» … و»الوسيط» «go Between«، و»الحادثة» مع سيناريو هارولد بيتر)، وكذلك الى أنطونيوني هذا الكبير صاحب «بلو اب» (انفجار)، و»زبرانسكي بونت»، وفلليني هذا «العجائبي في أفلامه «الثامنة والنصف»، و»دولتشي فيتا»، وهتشكوك، وسواهم.
اورسون، كما قال أحد المعجبين به «لم يكن اورسون يوماً ما طفلاً. أو إذا كان كذلك، فقد جهز لاجتياز هذه المرحلة بسرعة الى درجة أوهمنا فيها انها مجرد زائلي، بينما هو من دون عمر». مليئاً بالثقة، يفقد ذلك الولد براءته. موت أمه عام 1924 ثم والده عام 1930، يجردان ويلز من مراهقته ولم يكن سوى في الخامسة عشرة. أدخله مع مدير مدرسته الى الكلاسيكية، ثم الاسباني، وجلب اورسون اللعب والتنكر، منخرطاً في فرقة مشهورة في دبلان…
لدى عودته الى الولايات المتحدة الأميركية عام 1934، الشاب ذو المخيلة المتدفقة يجرب حظه في برودواي. ومتبنى من الكاتب تورنتون ويلدر، الذي يقترحه على فرقة كاتارين كورنيل، يقلب ويلز القواعد السائدة والحواجز. يتزوج من الثرية «فرجينا نيكسون» يغري المنتج الشاب اللامع جون هوسمان. ومستفيدين من تحويل الحكومة، ينشئ الاثنان عام 1935 «المسرح الفيدرالي». والى قراءته الخاصة لمسرحية شكسبير «مكبث» التي أداها ممثلون سود، يتناول «يوليوس قيصر» (شكسبير) بصيغة فاشستية. من حيث الشكل، اعتمد ويلز سينوغرافيا من خلال يلعب الممثلون وسط المتفرجين» وهذه الاختبارات حتى عند أصدقائه لم تلق إجماعاً «كان مدعياً بطريقة فظيعة ومليئاً بالأفكار «العبقرية» حول المسرح».
كما كتب أحد النقاد جورج كولوريس موضحاً «منذ عمله مع كاتارينا كورنيل، أحيط بالثناء، والتقريظ، لكن بالنسبة إليّ، لم يكن، اورسون سوى هاوٍ، نوع من الفضولية». لكن بعد فشل مسرحيته الماركسية «المهد ستهتز»، يستعيد توازنه مع «هاوس مان» بفضل مغامرة «مركوري ثيتر».
وفي العام ذاته يخترق ويلز الراديو، مع إرادته بكسر التابوهات. وعندما يعلن على موجات CBC في 30 تشرين الأول 1938، ان هناك هجوماً مريخياً على الأرض، مما أثار رعباً هستيريًّا بين الناس عبر البلاد كلها.
وتبدأ المرحلة الهوليودية عام 1939 مع شركة «KKO« باتفاقية واحدة تترك له الحرية الفنية المطلقة. وعند زيارته لاستديوهاتها يقول ويلز معجباً «انه أجمل قطار كهربائي رآه في حياته». وتعاملت معه هوليوود كولد مدلل، يعيش حياة مترفة، ويغري الممثلات، ويلعب بالسيناريوات، قبل أن يدفع من شركة «KKO« الى العمل. وكان أول فيلم روائي طويل له عام 1941، من هذه التناقضية.
«عندما أنجز» «المواطن كين»، (كما يتذكر روبرت وايز، قلنا انه عمل حياته كلها. ولن يحب بعده شيئاً آخر». الفيلم مستوحى من عملاق الصحافة وليم راندولف هيرست، وكانت ضربة معلم، الذي أفاده فيه سيناريو هرمان مانكنفيش. ولكن أيضاً الابداع الذي استخدمه ويلز في الأدوات السردية «فلاش باك»، «عمق الرؤية البارونية، وهذه كلها جزء من الاخراج المذهل. ومن خلال استغلال ويلز الدعائي وتهديد هيرست بالرقابة، جعل من «المواطن كين» نجاحاً نقدياً لكن من دون نجاح شعبي موازٍ.
في السنة التالية يوقع المخرج «روعة آل البرسون» قصة عائلية أكثر كلاسيكية، لكنها جذابة جداً، وهنا يترك اورسون ويلز تصوير « true its all « في أميركا الجنوبية، ليحضر افتتاح فيلمه الجديد. فشل ذريع، ما جعل شركة «KKO« تنفصل عنه». ويعلق ويلز «لم أنجز شيئاً لم ينجح، لكن صنعت أشياء لم تحظ بالإعجاب» وهذا ما بذله سنوات في هوليوود، مخططاً لقصص لم يكن له القوة لتحقيقها، موحياً لشابلن «Monsieur verdeco« ومخرجاً مسرحيتين، وكاتباً عدة خطب وأبحاث، ومشاركاً في إعادة انتخاب روزفلت، ولاعباً أدواراً في أفلام عديدة كما في «الرجل الثالث«.
ويلز الذي كان يحظى بميزانيات ضخمة، يثبت في عام 1996 في فيلم «المجرم» انه قادر بميزانية محدودة النجاح في فيلم «ثريلر» تقليدي. لكن «مدام شنغهاي» بعد طلاقه من رجينيا (أنجبا بنتاً) تزوج من جديد الممثلة ريتا هيوارث. لكنه، مهملاً الطفل الذي أنجباه ومنهمكاً بحالاته، بدا ويلز على وشك طلاق ريتا هيوارث، عندها يقترح عليه الدور القاتل، الذي يصفى في قصر من المرايا يتحول مشرحة. لكن الكارثة التمويلية للفيلم أدت الى انفصال أورسون عن هوليوود.
وهنا، عاد الى معشوقه شكسبير، وهو شبه مفلس، ومهووس باتهامه بالميول الشيوعية، يخرج «ماكبث«. ويعيش ويلز عام 1948 حياة مترفة، بين أوروبا، وافريقيا وأميركا. وفي تلك الفترة كان يتملكه حلم اقتباسي «دون كيشوت»، ويحقق على مدى سنوات أعمالاً أقرب الى متطلبات الظروف منها الى النوعية.
ثم اقتبس مسرحية شكسبير «عطيل»، في كل تمويل هش، لكنه، من جديد يدهش، على المستوى البصري، مضاعفاً المشاهد المقطعة بالمونتاج، والكادرات المدهشة.
وانهمك بعد ذلك في مواضيع معاصرة: «ملف سري» و»التعطش الى الشر»، واصفاً مجتمعاً في طريقه الى التفكك، بإخراج أكثر بارونية من أي وقت مضى. وبرهن ويلز في فيلمه «التعطش الى الشر»، انه لم يفقد شيئاً من نضارته.
ثلاثة أفلام تلت: «القضية» (لكافكا)، وكذلك «قصة خالدة»، لكنه لم يتمكن في حياته من تمويل ملحمته الأخيرة «The other side of the wind« (الناحية الأخرى من الرياح)، هذا العمل الذي اكتشف مؤخراً، ليكون صورة لبعض تحف هذا المخرج. متعدد المواهب والاهتمامات، عبقري ومُحبِط، رجل جميل تحول تحولاً متفخخاً.
الاحتفال بالذكرى المئوية لهذا العملاق الذي بقي فيلمه «المواطن كين» في رأس لائحة الأفلام الأعظم في القرن العشرين، على مدى أكثر من نصف قرن، هذا «العبقري» ذو الحضور الطاغي ممثلاً، ومخرجاً، وكاتباً، يستحق استرجاع هالته، لأنه، في وصفه الكثير من الممثلين والمخرجين والنقاد، بأنه «أعظم مخرج عرفته السينما العالمية».
صحيح انه أنجز أفلاماً دون المستوى، خصوصاً في الفترات الصعبة في حياته، عندما انتقل من هوليوود الى أوروبا، وصحيح أنه شارك في أفلام أقرب الى التجارية منها الى النوعية، إلا أنه يبقى محطم التابوهات في السينما والمسرح، مخلخلاً القواعد والأعراف والطرق السينمائية، إخراجاً، ومونتاجاً، وإيقاعاً، وصورةً، وأداء. انه الفاتحة الكبرى للتجريبية الرائدة في السينما العالمية، سواء الفرنسية أو الايطالية، أو الأميركية… وأتذكر جيداً عندما شاهدته ممثلاً في بعض الأفلام الرائعة: «المواطن كين» والذي فتح فيها آفاقاً جديدة من الرؤية. حضور جسدي كاسر، أداء جديد خارج الكليشيات الهوليوودية، زوايا من القسمات تصيب المتفرج في صميمه. ولا أنسى تمثيله في فيلم «القضية» (كافكا) في دور القاضي، هذه القامة التي توحي الغموض، والاصرار والقوة… والسحر. لكن الممثل الكبير انطوني هوبكنز تمكن من الصمود أمامه في دوره الرئيسي «مستر ك». وكذلك دوره في «المجرم» و»حقائق واكاذيب» 1973 وقد اذهلني وما زال في «عطيل»، وفي «مكبث»… فأي حضور هذا، لممثل يفترس كل من هو أمامه.
سيرة وأعمال
[ 1915 ولادته في ويسكونسن، من أب صناعي وأم عازفة بيانو. كانا يتعاملان مع الصغير باعتباره عبقرياً.
[1935 يشارك المنتج جون هارسمان، يدخل مسرح «الكورال ثياتر« ويصبح قوة ابداعية في برودواي.
[1941 ينال عن «المواطن كين» جائزة الأوسكار للسيناريو.
[1999 مفلساً، ومطارداً من الدائنين، وضحية للمكارثية، يمضي ويلز الى أوروبا، ليجدد أسطورته.
[ 1985 موت ويلز في لوس أنجلوس، جراء نوبة قلبية، في السبعين من عمره، نثر رماده في الأندلس.
أفلامه
[ 1941 «المواطن كين»
[ 1942 «روعة
آل البرسون»
[ 1946 «المجرم»
[ 1947 «مدام شنغهاي»
[ 1948 «مكبث»
[ 1952 «عطيل»
[ 1955 «ملف سري»
[ 1958 «التعطش الى الشر»
[ 1962 «القضية»
[ 1965 «فاستاف»
[ 1968 «قصة خالدة»
[ 1969 «تاجر البندقية»
[ 1973 حقيقة وأكاذيب
المستقبل