“العبودية المختارة” إلى العربية: مرافعة قوية ضد الطغيان
«العبودية المختارة» لإتيان دو لا بويسي ترجمة صالح الأشمر (عن دار الساقي)، من الكتب المنارات التي صدرت في القرن السادس عشر، بل هي من الصرخات المدوية النادرة ضد الملكية، وأشكال قمع الحريات التي تهدف إلى ما سماه سيادة الخضوع، عند الرعية وعند الشعب.
ولا يكفي التركيز على أهمية الكتاب في عصره الظلامي، والطغياني، بل لأنه يطل على كل ما عاناه الإنسان منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم، من إمحاء، وسحق لإرادته، بكل الأساليب الوحشية، بل نعتبره من أهم الكتب التي مهدت للثورة الفرنسية، التي أسقطت الإقطاعين الديني والملكي، باتجاه سلطة مدنية، ديموقراطية (على الرغم من العنف الذي مارسه بعض قادة الثورة كروبسبيير).
كأنه كتاب وضع اليوم، أو بالأحرى كل عصر من العصور الظلامية.
وبويسي هو ذو مكانة مرموقة في الفكر الفرنسي، وأحد الرواد الكبار للتنوير، والنهضة، وانتقال المجتمعات من عصر العبيد إلى عصر الحرية.
وما يلفت أن بويسي (الذي بات مرجعية مهمة في الفكر) أسلوبه الواضح، المييسّر، الغريب، على الرغم من عمقه. فهو ينتمي إلى زمن لم تكن «المفاهيميات» الفلسفية والمجتمعية، سائدة، فتكون بذلك موجهة إلى النخب فحسب. الكتاب لنخب النخب لكنه أيضاً لكل إنسان عادي يرى فيه ملاذاً، ودعوة إلى التمرد على الخضوع القطيعي.
وقدم صالح الأشمر ترجمة ممتازة، دقيقة، وكذلك حية، فلم يغرقها لا بالبلاغية، ولا بالفصاحة، ولا بالتصرف بالمعنى. قدم الأشمر للقارئ النص كما هو بجذوره، ولغته، وبساطته… وعمقه. ونظن بأن اختيار «دار الساقي» مثل هذه الكتب (القديمة أو الحديثة)، وسط هذه الفوضى السائدة، وتراجع القارئ والقراءة، خطوة شجاعة، سواء على الصعيد المهني أو منفعة القارئ.
هنا التوطئة التي وضعها مترجم الكتاب صالح الأشمر.
ب. ش.
[ توطئة
لا تُعرف أشياء كثيرة عن طفولة إتيان دو لا بويسي سوى أنه ولِد في عام 1530 في مدينة سارلات قرب بوردو، ونشأ في عائلة من القضاة إذ كان والده أنطوان قاضياً ووكيلاً للطبقة الأرستقراطية في إدارة أعمالها. وقد توفي والده وهو طفل صغير فتكفّله عمه استبان، وهو قاض وكاهن، وتولى تربيته وتعليمه وكان له بمثابة أب ثان.
بعد أن فرغ دو لا بويسي من دراسة الإنسانيات، كما كان مألوفاً آنذاك، مال إلى دراسة النصوص القديمة اليونانية واللاتينية، ثم درس الحقوق في جامعة أورليان. وفي تلك الفترة وضع مقالته «العبودية المختارة» عام 1547 وكان في الثامنة عشرة من العمر. وبعد أن حصل على شهادة الحقوق أصدر الملك هنري الثاني قراراً بتعيينه مستشاراً في برلمان بوردو وهو في الثالثة والعشرين من عمره، أي قبل عامين من بلوغه السن القانونية لتولي هذا المنصب.
في العام 1560 كُلّف دو لا بويسي من قِبَل صديقه الذي كان يكبره بعشرين سنة ميشال دو لوبيتال، مستشار الملكة الأم كاترين دو ميديسيس، أن يشرح لأعضاء برلمان بوردو المنحازين إلى الكاثوليك فوائد السلام ووضع نهاية للحرب التي كانت دائرة آنذاك بين الكاثوليك والبروتستانت. وبعد صدور المرسوم الملكي بشأن التسامح الديني وإعطاء البروتستانت حرية ممارسة شعائرهم الدينية كتب دو لا بويسي مذكرة تناول فيها المآسي الناجمة عن الصراعات الدينية موضحاً أن استخدام القوة لا ينهي المشكلة بل يزيدها تعقيداً.
في هذه الأثناء تزوّج إتيان دو لا بويسي من مرغريت دو كارل وهي ابنة رئيس برلمان بوردو وأرملة ثرية. وفي عام 1563 أصيب بمرض خطير يرجّح أنه مرض السل فقرر السفر إلى منطقة ميدوك حيث تمتلك زوجته أراضي واسعة وذلك للإفادة من مناخها، وبينما كان في طريقه تدهور وضعه الصحي فعرّج على منزل زميله في البرلمان ريشار دو لوستوناك، وهو صهر صديقه الكاتب ميشال دو مونتاني، حيث أمضى بقية أيامه وأملى وصيته في 14 آب/ أغسطس. وقد أشار مونتاني إلى ذلك في رسالة إلى عمّه ختمها بقوله: «في الثامن عشر من شهر آب/ أغسطس عام 1563 لفظ إتيان دو لا بويسي أنفاسه الأخيرة ولم يبلغ من العمر سوى 32 سنة و9 أشهر و17 يوماً».
لم تُنشر مقالة «العبودية المختارة» في حياة مؤلفها، ولكنه أطلع عليها صديقه مونتاني عندما ألّفها، وكان أول من نشرها هم الكتبة البروتستانت الذين كانوا يعارضون الملكية المطلقة. ثم نشرها مونتاني في كتابه مقالات مع نبذة عن الكاتب تضمنتها مقدمة هذه النسخة.
تعد العبودية المختارة مرافعة قوية ضد الطغيان حاول كاتبها أن يتقصّى أسباب خضوع الناس لحكم شخص واحد لا يملك من القوة إلا ما أعطوه. وقد تضمّنت أمثلة كثيرة عن الطغيان والطغاة وحاشيتهم في العصور القديمة اليونانية والرومانية مما سمح للمؤلف بانتقاد الوضع السياسي القائم في أيامه تحت ستار البحث العلمي.
ويرجّح معظم الباحثين أن الأسباب التي قادت دو لا بويسي إلى كتابة العبودية المختارة تعود إلى ما شهده عصره من اضطهاد على أساس الاختلاف الديني والمآسي التي وقعت في أثناء الحرب الأهلية الضارية بين البروتستانت والكاثوليك، إضافة إلى الانتفاضات التي قامت في بعض المقاطعات الفرنسية المحرومة ضد التعسّف الضريبي والقمع الدموي الذي مارسته القوات الملكية لفرض النظام.
وجملة القول إن العبودية المختارة تطرح مسألة شرعية الحكام الذين يسمّيهم إتيان دو لا بويسي «أسياداً» أو «طغاة» مهما كانت طريقة وصولهم إلى السلطة سواء بالقوة، أو بالوراثة، أو بالانتخاب، وأن ما يُفسّر هيمنة هؤلاء الطغاة ليس حسن إدارتهم للملك طبعاً، ولا سيما أن أكثرهم يتميزون بانعدام الكفاءة، ولكن العادة، أكثر من الخوف، هي التي تفسّر استمرار الشعب المستعبد في احتمال وطأة الاستعباد. ثم يأتي الدين والخرافة كعاملين من عوامل الخضوع إلا أنهما لا ينطبقان إلا على الجهلة من العوام. ثم إن إنما سرّ كل طغيان يكمن في إشراك فئة قليلة من المستعبدين في اضطهاد سائرهم، وهكذا يرمي الطاغية بالفُتات إلى زُمرة المتملّقين من أتباعه فلا يكتفي هؤلاء بما يغنمون منه ولا بدوام طاعتهم له بل إنهم يستبقون رغباته ويحدسون ما يريد قبل أن يفصح هو عنه. وهؤلاء المتملقون المقرّبون إلى الطاغية يختارون العبودية طواعية، بينما يكون الشعب مكرهاً عليها. على هذا الأساس يقوم هرم الطغيان: يُخضع الطاغية خمساً من الأتباع، ويُخضع هؤلاء مئة غيرهم، والمئة تُخضع ألفاً، علماً أن هذا الهرم سرعان ما يتهدّم ما إن يكفّ المتملقون عن بذل أنفسهم قلباً وجسداً في سبيل الطاغية وعندئذ يفقد كل سلطة اكتسبها ويسقط عن عرشه. ثم إن الطاغية لمّا لم يكن له نظير ولا رفيق يعادله فهو يعيش في خوف دائم، فالجميع يخشاه ولذلك فهو معرّض للاغتيال في كل لحظة من قبل المقربين إليه بوجه خاص، وهذا ما ساق له المؤلف أمثلة كثيرة عن مصائر الطغاة في العصور القديمة.
المستقبل