العبودية المختارة/ محمد حجيري
يقول سبينوزا إن فئة كبيرة “تناضل” كل يوم في سبيل عبوديتها، وكأنها سبيل إلى الخلاص (غيتي)
في خضم غليان الربيع العربي، والتظاهرات والمطالبة بالحرية، لم تكن ظاهرة العبودية المختارة أو الطواعية، تحتاج الكثير من التفسير لتبيانها على الملأ… تلك المجموعة التي اختارت الحذاء نصباً لها في مدينة طرطوس السورية، ظهّرت توجه بعضهم إلى “التلذذ” تحت وطأة التعاسة والطغيان. فالحذاء المحتقر في الموروث الشعبي، بات رمزاً، بالنسبة لغلاة النظام الديكتاتوري البعثي، لدرجة أن المذيعة التونسية كوثر بشراوي أطلت على شاشة التلفزيون، فبدت أكثر فجاجة وصلافة وحقارة في عبوديتها المختارة، وهي التي اتت بالحذاء العسكري (الرنجر السوري) الى داخل الاستديو، وراحت تقبله كأنه إله العصور الجديدة… (وحتى بعض المواطنين والمواطنات ممن شاركوا في احدى تظاهرات الدعم لعبد الفتاح السيسي في مصر، لم نفهم لماذا وضعوا الحذاء على رؤوسهم كقبعة، كأن بين هؤلاء جميعاً علاقة “فيتشية” بالحذاء وثقافته)…
لا يتقصر الأمر على ثقافة الأحذية ومشتقاتها… الممثل السوري الشاب يزن السيد الذي أطل عبر أحد برامج الفضائح التلفزيونية، راح يبكي ما إن شاهد صورة بشار الأسد في الاستديو… ذلك الممثل الكثير الاستعراض، وصاحب الدموع الجياشة، أراد ان يقول للجمهور إن بشار الاسد ملاك ومخلص، وتآمرت عليه الأمم والشعوب، وبدأ يذرف دموع التماسيح. بمعنى آخر كان الممثل الدون جوان يجيد التمثيل بالدموع طوال الوقت، ولا يصدق ما يحدث لقائده “الآدمي”… وهناك العشرات من الممثلين مثله ممن يتماهون مع العبودية باعتبارها “وفاء” لقائدهم، لمجرد أنه كان يؤمن لهم حصصهم في المسلسلات الدرامية البائسة الى جانب الطبابة، فهم يجيدون التصفيق له، تماماً كما مجلس الشعب السوري الذي لا يجيد غير التصفيق والهتاف بـ”الروح والدم”، الثابتة الوحيدة في تاريخ سوريا المعاصر…
كان سبينوزا يقول أنه في كل مرارة هناك فئة كبيرة “تناضل” كل يوم في سبيل عبوديتها، وكأنها سبيل إلى الخلاص… لا ضير في ذلك، وهناك الآلاف من الشبان السوريين الذين يقاتلون حتى الموت في سبيل الأسد، والآلاف قُتلوا تحت راية العبودية المختارة… فهل يعقل أن تفنى أمّة في سبيل بقاء “سيدها”؟ هل يعقل أن يدمر بلد بهدف الإبقاء على رئيسه؟
***
في موضوع خضوع الشعوب غير المفهوم لـ”شخص واحد”، لم يُكتب بحث أوثق صلة أو أكثر اكتمالاً من بحث “العبودية المختارة” لإتيان دو لابويسي (1530_1563) الذي وضعه وكان في الثامنة عشرة من العمر. يجد لابويسي أن الشعوب “هي التي تخلق الأكاذيب حتى تعود فتصدقها”. والطغاة لا يكتفون بالتحكم بمكنونات الطاعة، بل يطلبون الاخلاص من المريدين الذين عليهم العمل بما يقول الباغي الطاغية، إضافة إلى التفكير في ما يريد، وغالباً ما يكون عليهم أن يحدسوا ما يدور في خلده حتى يُرضوه. كتاب لابويسي، صغير الحجم، كُتب قبل نحو 450 عاماً وما زال راهناً، وترجم أكثر من مرة في العالم العربي وطبع بعشرات الطبعات في أكثر من عاصمة… التهافت على قراءة هذا الكتاب – المقال، إشارة واضحة الى أن العبودية المختارة ما زالت سائدة بقوة في البلدان العربية، خصوصاً في السياسة، حيث الشخص هو كل شيء، والجماهير مجرد عبيد…
ربما يختصؤ هذا المقطع من المقال، واقعنا: “إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم، كلما وجدت حطبًا، زادت اشتعالاً، ثم تخبو وحدها من دون أن نصب ماء عليها، فيكفي ألا نلقي إليها بالحطب، كأنها إذا عدمت ما تُهلك، تُهلك نفسها، وتمسي بلا قوة وليست نارًا. كذلك الطغاة، كلما نهبوا، طمعوا، كلما دمروا وهدموا، كلما موّناهم وخدمناهم، زادوا جرأة واستقووا وزادوا إقبالاً على الفناء والدمار. فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم، صاروا، بلا حرب ولا ضرب، عرايا مكسورين لا شبه لهم بشيء إلا أن يكون فرعًا عدمت جذوره الماء والغذاء فجف وذوى”…
***
يرى المحلل النفسي أرنو غروون، أن الوفاء والطاعة يجدان أصلهما في السلطة، هناك حيث تصبح العبودية المختارة قيمة أخلاقية وإنسانية تستحق الإعجاب. والحال أنه حين نسمع بعض جمهور “حزب الله” يقول في المناسبات المأساوية “فدا إجر السيد”، ندرك كم أن الحب أعمى في السياسة، كم أن التعصب يحجب عنا الواقع، كم أن الايديولوجيا تقتل السياسة…
***
جاء في كتاب “الأدب المسؤول” للكاتب اللبناني الراحل رئيف خوري: “يولع الماركسيون السوفياتيون الرسميون بترديد هذه الكلمة”: الأدباء مهندسو الأرواح البشرية، وهذا صحيح، لكن شرط ألا يكون هؤلاء المهندسون قد هُندس لهم سلفاً كل شيء”… نَقَد رئيف خوري، بيروقراطية تطمئن الى “العبودية الطوعية” قبل ان تعترف بوحدة الاديب والجمهور كما قال فيصل دراج. رئيف خوري لمن لا يعرفه، من بلدة نابية الجبلية، كان يساريا في الخمسينات، تناظر مع طه حسين حول دور الأديب بعنوان “لمن يكتب الأديب، للكافّة؟ أم للخاصّة؟” بدعوة من هيئة المحاضرات في كليَة المقاصد الإسلآميَه في بيروت العام 1955. هو الشيوعي اللبناني، ووعيه “القومي” (العربي) هو الذي قاده إلى الخلاف الكبير مع الاتحاد السوفياتي، ومع “الرفاق” في الحزب الشيوعي اللبناني في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت. يتساءل رئيف خوري في كتابه “الثورة الروسية، قصة حضارة جديدة”: “لم أجد تجاه العرب في حقل السياسة الخارجية التي يتبعها الاتحاد السوفياتي ما لا أؤيده، سوى اقتراع المندوب السوفياتي في جامعة الأمم المتحدة بالموافقة على تقسيم فلسطين..”. وانتقد رئيف خوري رفاقه الشيوعيين اللبنانيين، لأنهم سكتوا عن تقسيم فلسطين. وكانت النتيجة أن وُضع الحرم على رئيف خوري، وعُزل، وكان نموذجاً للمنشق عن أحزاب تعيش في دائرة “العبودية المختارة”، والرهاب الستاليني والمركزية السياسية… لنتذكر ما قاله الرئيس السوفياتي نيكتا خروتشوف في هذا المجال. ففي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي طرح خروتشوف هذا السؤال المحوري: كيف أمكن لفرد واحد مثل ستالين أن يتحكم بمصير أمة؟ كيف أرسل للموت مئات الآلاف ولم يقتل واحداً بيده؟ كيف كانت نظرة سيئة منه لعضو في المكتب السياسي تجعله يرتجف هلعاً بقية حياته؟
الأرجح أن ستالين ما زال بيننا، بنسخ جديدة دينية وايديولوجية وغيرها، والحزب الشيوعي يشكل نموذجاً للأحزاب اللبنانية الاخرى القائمة على التبعية والعبودية…
***
458 مليون شخص تقريباً يتعرضون للعبودية بأشكالها المختلفة. نصف سكان العالم إذاً يواجه “العبودية المعاصرة”، بحسب منظمة Walk free الأسترالية، التي أصدرت تقريراً بعنوان “مؤشر العبودية العالمي 2016″، في 31 أيار/مايو2016. وذكرت فيه أن 58% من هذا الرقم الهائل هو في خمس دول فقط، على رأسها الهند. هكذا، تسيطر عبوديات مختلفة، على العالم، بدءاً من عبودية المال، إلى عبودية الجنس وعبودية الاستهلاك وعبودية الانترنت..
المدنf