صفحات العالم

العجز أمام الطغيان


علي الغفلي

لم يتأخر الشعب السوري كثيراً في إطلاق ثورته السلمية ضد نظام بشار الأسد المتسلط، ولكنه تأخر كثيراً عن تحقيق هدف تغيير نظام الحكم في بلاده، ولايزال من الصعب التكهن بأية درجة معقولة من الثقة بكيفية وتوقيت سقوط هذا النظام . كان هذا النظام صارماً في رفض مطالب التغيير السياسي، ولم يتردد مطلقاً في التصدي لإرادة الشعب بكل أدوات التشويه والمراوغة والقمع، وهو لايزال بعيداً تماماً عن القيام بأية خطوة لإصلاح السلطة أو الانسحاب منها . لقد أطلق الشعب السوري ثورته على نظام الحكم السلطوي، وقد صار هذا الشعب يدرك اليوم أن نظام الأسد يمثل أبشع صور الاستبداد، إذ إن هذا النظام يجسد بشكل استثنائي كل صنوف الجور التي يمارسها حكم الطغيان السياسي .

لا توجد حدود أمام تمادي طغيان نظام الأسد، ولا يبدو أن هناك من يقوى على إيقاف هذا الطغيان عند أي حد، والنتيجة هي أنه قد تعين على الشعب السوري أن يواجه مصيره القاسي بمفرده . يمتلك نظام الأسد مخزوناً لا ينضب من الرغبة في انتهاك حقوق الشعب، وتحطيم إرادته، وافتراس أرواحه، ولا يأبه بسقوط أكثر من سبعة آلاف قتيل خلال عام واحد، ولن يكترث إن وصل عدد ضحاياه إلى سبعين ألفاً خلال العام التالي . لقد حرص نظام بشار الأسد على صياغة قناعة واضحة في أذهان أعدائه الذين صنعهم من أبناء الشعب السوري والدول الأخرى، جوهرها أنه لن يتنازل عن أي جزء من السلطة، وأن ليس بإمكان أي جهد محلي أو دولي أن يرغمه على السير في هذا الاتجاه، وأن على من لديه أي أمل بهذا الخصوص أن يستبدله باليأس التام من التغيير السياسي في سوريا .

لا يجد نظام بشار الأسد صعوبة كبيرة في فرض هذه القناعة على كل خصومه، وربما أسهم العديد من هؤلاء في تسهيل مهمته . تستحق الجهود الدولية الرامية إلى محاصرة نظام الأسد وإنقاذ الشعب السوري التعاطف بكل تأكيد، ولكنها من الناحية السياسية تعتبر مثيرة للشفقة والأسى معاً . ظلت الثورة السورية محرومة من الاهتمام الدولي في بادئ الأمر، وذلك بسبب اهتمام الجميع بتطورات الحربين الأهلية والدولية التي آلت إليهما الثورة الليبية، وتعين على الأزمة السورية أن تنتظر إلى ما بعد سقوط نظام القذافي كي تبدأ في نيل الاهتمام الذي تستحقه . لم يكن المجتمع الدولي قادراً على معالجة أزمتين في وقت واحد، واتضح سريعاً أنه لم يكن حازماً بشأن مطلب إنهاء سيطرة نظام الأسد على سوريا، وتفاقمت أزمة الإرادة الدولية بعدما تبين عمق انقسامها تجاه الأزمة السورية .

وارتبكت الدول في التعامل مع موضوع شرعية نظام الأسد بشكل خطر، حيث أعلنت زوالها، و ذلك في الوقت الذي استمرت في مناشدة النظام ذاته بأن يضع حداً للأزمة السياسية والإنسانية التي تعصف بالبلاد . وألحقت هذه الدول وذلك الارتباك باضطراب آخر، حيث تأرجحت بين سحب سفرائها من دمشق تارة وإعادتهم تارة أخرى، ولاتزال دمشق تحتفظ بتمثيل دبلوماسي مع العديد منها، وسط غموض شديد يلف الموقف من شرعية نظام الأسد . وعلى الرغم من الحنق الشديد الذي تعبّر عنه عواصم هذه الدول تجاه جرائم طغيان الأسد، إلا أن هذا الأخير يبدو مطمئناً بأنه يتعامل مع أطراف دولية عاجزة .

اختارت كل من روسيا والصين المخاطرة بالظهور في موقف المساند لنظام الأسد، وهو موقف يوضح مدى الدعم الذي ترغب هاتان الدولتان في تقديمه لدمشق في هذه المرحلة، ويؤكد اعتقاد نظام الأسد أن بإمكانه عدم الاكتراث لأعدائه في داخل سوريا وخارجها . اعتقد الحالمون أن كلاً من موسكو وبكين سوف تكتشفان لاحقاً خطأ قرارهما بالتصويت ضد المبادرة العربية في مجلس الأمن وأنهما سوف يتحولان إلى الضغط على نظام الأسد، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث حتى الآن، بل انتقدت العاصمتان التوبيخ الموجه إليهما بسبب إفشالهما المبادرة العربية، ولذلك فإن بإمكان نظام الطغيان في دمشق أن يثق بأن المساندة التي يلقاها من روسيا والصين لاتزال مستمرة .

صار من الواضح أنه يتعين على القوى السورية المناوئة لنظام الأسد أن تصنع القناعة في أذهان الجميع أنها تشكل معارضة تستحق الاعتداد بها .  لقد أخفق المجتمع الدولي في الاعتراف بشكل صريح بالذراعين السياسي والعسكري للمعارضة السورية طوال الفترة الماضية، وقد يكون من الأنسب القول إن هذه القوى قد ظلت عاجزة عن انتزاع مثل هذا الاعتراف من خلال التنظيم والأداء اللذين ظلا يعانيان من أوجه قصور خطرة . أبعد من ذلك، لقد فشلت المعارضة السورية في الحصول على مجرد تعاطف روسيا والصين على الرغم من توفر الفرص أمامها للتواصل معهما، وذلك في الوقت الذي يمكن للمرء أن يعتقد أن هاتين الأخيرتين سوف تدعمان مطالب إزاحة نظام الأسد من الحكم في حال تبين لهما أن بإمكان المعارضة ضمان المصالح الاستراتيجية الروسية والصينية في سوريا . إن عدم نجاح المعارضة في تحقيق مثل ذلك الانجاز يدفع بنظام الأسد إلى الاعتقاد بأن كلاً من روسيا والصين تفضلان الإبقاء على مصالحهما الدولية مصونة في ظل استمرار الأسد، وليس من دونه، وهو اعتقاد يؤدي به إلى التمسك بالسلطة .

إن الدعوة إلى تسليح المعارضة هو موقف آخر مثير للشفقة، إذ إنه أتاح لنظام الأسد الادعاء بأن الاتهامات التي ظل يكررها بوجود قوى خارجية تُؤلب المعارضة وتؤجج العنف في بلاده هي اتهامات صحيحة، والأسوأ من ذلك أن مجرد طرح خيار تسليح المعارضة يفتح المجال واسعاً أمام نظام الأسد لكي يقتل أكبر عدد من المدنيين السوريين تحت دعوى أنهم يشكلون معارضة مسلحة محتملة ينتظرون فقط وصول الأسلحة إلى أيديهم من الخارج . إن خيار تسليح المعارضة مرفوض من قبل جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، ولم تسهم هذه الدعوة الانفعالية سوى في كشف مدى ارتباك وانقسام المجتمع الدولي تجاه الأزمة السورية، وهو أمر يجعل نظام الأسد سعيداً بكل تأكيد .

لقد هدف نظام الأسد إلى الدفع بخصومه في داخل سوريا وخارجها إلى اليأس، ومن المؤكد أن هؤلاء قد أسهموا في تيسير مهمة تحقيق هذا الهدف . إن عرض العفو والحصانة على أسرة الأسد وطاقم نظامه مقابل تخليه عن السلطة على الرغم من فداحة الجرائم التي ارتكبها طوال اثني عشر شهراً يعتبر تتويجاً للعجز واليأس الدوليين، وحتى هذا العرض السخي والمغري لا يلقى من نظام الأسد سوى التجاهل والاستهزاء .

* رئيس قسم العلوم السياسية (جامعة الإمارات)

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى