صفحات الرأي

العراق: المفتي وأمير الطائفة/ عصام الخفاجي

 

قبل بضعة أيام من الانتخابات البرلمانية العراقية، راج شريط فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى اليوتيوب (أكثر من 33 ألف مشاهد) يحدد فيه بشير النجفي، أحد أربعة مراجع كبار في الحوزة العلمية في النجف، موقفه من رئيس الوزراء نوري المالكي ومن الانتخابات المقبلة. خطوة النجفي هذه غير مسبوقة إذ ظلت المرجعية تعلن أنها تقف على مسافة متساوية من كل المرشحّين، وأنها لا تتدخل في قضايا السياسة اليومية، على رغم معرفة كثيرين من العراقيين بأنها طرف فاعل في تشكيل تحالفات قوى الإسلام السياسي الشيعي. وهي خطوة غير مسبوقة في قيام مرجع شيعي بشن هجوم ضار على رئيس وزراء يقود في الوقت نفسه الحزب الشيعي الأكثر نفوذاً، وربما جماهيرية، في العراق.

أفصحت التعليقات الإيجابية على شريط الفيديو هذا عن أن مروّجيه أرادوا الاستناد إلى شخصية ذات ثقل ديني للتعبئة ضد رئيس الوزراء الذي لا ينقصه عدد من يتمنّون انزياحه عن السلطة. لكن مواقف النجفي ومؤيديه تشير إلى ما هو أخطر بكثير من معارضة المالكي الذي توشك سياساته المتغطرسة تجاه خصومه على تفتيت العراق. كأن الرجل لا يجد وسيلة للحفاظ على منصبه غير اختلاق الخصوم، وإثارة غرائز الخوف والعدوانية لدى أنصاره.

لا يهاجم النجفي المالكي لطائفيته، بل لأنه ليس طائفياً بما يكفي. فالأخير لم يغيّر المناهج التعليمية القديمة التي تشتم آل البيت. «كيف يقرأ التلاميذ في عهد ما بعد صدّام حكايات أبو الفرج الأصفهاني (لعنه الله) التي تفتري على سكينة بنت الإمام الحسين بكونها تجالس الشعراء وتستمع إليهم؟»، ينخرط النجفي بالبكاء. «أيعقل أن شيعة أفغانستان الذين لا يشكّلون أكثر من عشرة في المئة من السكان يتمتعون بمناهج دراسية خاصة بهم ولا يتمتع الطالب الشيعي بذلك في عراق يشكّل الشيعة فيه 65 في المئة من سكّانه؟»، يشعر المرجع بالصدمة من نظام التعليم في العراق (وهو نظام يتزايد حقنه طائفياً بالمناسبة) الذي لا يختصر على رجال الدين المسافة بتربية جيل كاره «لغير الشيعي» منذ الصغر. «غير الشيعي» هي العبارة التي يستخدمها النجفي لوصف السنّة والمسيحيين الذين لا يذكرهم بالاسم أبداً. سيقف المالكي، وفقاً للنجفي، إلى جانب صدّام أمام الله لينال العقاب نفسه. فالمالكي يتحدث عن مكافحة الإرهاب، لكنه هو الذي شجّع الإرهاب لأنه لم يعدم السجناء، ما مكّنهم من الهروب من سجونهم.

كنت سأتعامل مع فتاوى النجفي كطرفة سوداء مثلما تعاملت، شأن كثيرين، مع فتاوى إرضاع الكبير وتحريم حلق اللحى وجلوس النساء على الكراسي وغيرها مما ابتلينا به خلال العقود الأخيرة. فتاوى يسعى رجال الدين من خلالها إلى تأبيد سلطتهم على البشر بصفتهم المنقذين لهم من عقاب الآخرة.

النجفي لا يكتفي بتوجيه اتهام لخصمه يهدده بانفضاض الناس عن تأييده أو بمساءلته أمام القانون، بل هو يكفّره ويحرّم التصويت له من منطلق ديني. تتّخذ الفتوى بعداً تراجيدياً حين نسأل أولاً: هل دخل العراق مرحلة أكثر تعميقاً لطائفية الحياة والسياسة؟ كيف تحرر الساسة الدينيون من خطاب منافق لاكوه طوال الأحد عشر عاماً الفائتة عن «إخواننا» السنّة أو الشيعة أو الأكراد أو المسيحيين؟ لهذا السؤال دلالات خطيرة إذ هو يعني أن عامة الناس باتت تتقبل تقسيم الولاءات السياسية على أساس مذهبي كمعطى بدهي لا يحتاج إلى تغليف يخفيه. كل شيعي «صفوي» حتى يثبت العكس، وكل سنّي إرهابي حتى يثبت العكس. أحد أبرز قيادات المجلس الإسلامي الأعلى الذي يقوده السيد عمار الحكيم كتب على صفحته في الفايسبوك أن تشكيل الحكومة يجب أن يبدأ من «الدائرة الخاصة» أولاً لينتقل في ما بعد إلى الدائرة الوطنية. بات السياسي يدرك أنه لن يصدم الجمهور إن تخلّى عن تعبير الشراكة بين «مكوّنات» الشعب الثلاثة، الشيعة والسنّة والأكراد، ليعلن صراحة أن نقطة بدئه في مشروع بناء (أو تفكيك) العراق تقوم على اتفاق أبناء «الدائرة» الشيعية الخاصة أولاً، ليصار في ما بعد إلى فرض الاتفاق على أبناء الدائرة العامة التي لن تكون دائرة وطنية في الواقع، بل زوايا مثلّث تكون الدائرة الخاصة زاويته القائمة.

وتتخذ الفتوى بعداً تراجيدياً ثانياً حين يجاهد المجتهدون الدينيون لمنع السخط القائم والمشروع على حاكم صعد باسم الإسلام الشيعي من التحوّل إلى سخط على حكم الإسلام السياسي كله. ليس هجوم النجفي على المالكي غير مسعى للقول إن الأخير ابن عاق بين أبناء صالحين. وإن كان المالكي ابناً عاقّاً فاحذروا بديلاً غير إسلامي. يرتفع صوت النجفي ويرتجف: «أدلّكم على من يصلح للانتخاب… ابني وابن المرجعية السيد عمّار الحكيم… لا تخرجوا عن هذه القائمة». يذكّر المرجع روّاد مجلسه بأن المراجع لا يطمعون بكرسي حكم لهم أو لأبنائهم، لكنه لا يذكّرهم بالطبع بأن السيد الحكيم لم يصبح زعيماً سياسياً إلا لكونه حفيد المرجع الشيعي الأعلى السيد محسن الحكيم.

تتحوّل الطرفة إلى تراجيديا حين يذعن الناس إلى المفتي مرتضين التحول إلى رعيّة وراضين أن يكون راعيهم. فالبابا يحرّم على أتباعه التصويت للشيوعيين ويحرّم عليهم إقامة علاقات بين الجنسين قبل الزواج. لكنه يعرف أن حشوداً من أتباع كنيسته والمؤمنين به يصوّتون للشيوعيين ويقيمون علاقات جنسية قبل الزواج.

واحد من أسئلة استطلاع للرأي أجراه المعهد الديموقراطي الأميركي خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام: «حدّد اثنين من العوامل الأكثر تأثيراً في قرارك في الانتخابات المقبلة». ما يقارب النصف (48 في المئة) أجابوا: الزعماء الدينيون، و37 في المئة أجابوا: الزعماء العشائريون. قد يصيبنا بعض التفاؤل أن 61 في المئة اختاروا الحزب، و59 في المئة اختاروا قائد الحزب لولا أن الحزب وقائده في أعين الجمهرة الساحقة يعني حزباً طائفياً شيعياً أو سنّياً.

سؤال آخر: «هل تعتقد أن العلاقة بين السنّة والشيعة تتحسّن أم تسوء؟». مقابل 39 في المئة قالوا إنها تتحسن، أجاب 46 في المئة بأنها تسوء. لن يفاجئنا أن 19 في المئة فقط من أبناء الغرب السنّي رأوا أنها تتحسّن مقابل 54 في المئة قالوا إنها تسوء. لكن نذير الخطر لا يكمن هنا. فما سبق ينتمي إلى فصيلة الأسئلة الظرفية التي تتغير قناعات المجيبين عنها وفقاً للظرف السياسي. يكمن نذير الخطر في الإجابة عن سؤال: «هل تعتقد أن الطائفية لها جذور عميقة ولن تزول أبداً، أم إنها ستتلاشى تدريجاً مع الزمن؟». وفقاً للدلالات الإحصائية الباردة علينا أن نشعر بالارتياح: 58 في المئة يرون أنها لن تعود عاملاً مهماً مع مرور الزمن. ولكن أن يعتقد قرابة الثلث (32 في المئة) أنها لن تزول أبداً يؤشر إلى حسّ تضامن متفكّك. الأخطر أن الأكثر تفاؤلاً هم من لم يختلطوا بالطائفة الأخرى. 72 في المئة من عيّنة الجنوب الشيعي انحازت إلى الخيار المتفائل. أما في العاصمة بغداد التي يفترض أنها بؤرة التعايش، فإن 40 في المئة من سكّانها ترى أنها لن تزول أبدا.

ثمة بصيص ضوء لن يكفي لإزالة العتمة في المدى القصير على الأقل. حركة كوران (التغيير) الكردية حققت نجاحات باهرة بفضل برنامج سياسي يعد بمكافحة الفساد واحتكار السلطة لتصبح الحزب الثاني في الإقليم، وثمة تحالف مدني في العراق العربي يتزايد أنصاره ببطء. أما العامة فلن تجد ما ينفّس عن سخطها غير الافتتان بنجفي يأمرهم باستبدال قيادي إسلامي بآخر.

* كاتب عراقي

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى