العربي الوقح
غسان شربل
هذا الشاب الذي يحتل الشاشة لا نعرفه. لم نتوقعه أصلاً. لم نبحث عنه يوم كنا ننام في العواصم العربية. نحن نعرف والده. كان وديعاً ومسالماً. كان مستسلماً. يقرأ الصحيفة الرسمية ويتظاهر بالتصديق. ويستمع إلى نشرة الأخبار ويخفي ابتسامته الماكرة. وإذا حاول جاره استدراجه إلى علامة استفهام صنفه في خانة كتاب التقارير وابتعد. نعرف والده. كان يستدعى للتصفيق ويذهب. ويستدعى للاقتراع ويذهب. وكانوا يقدمون له وجبة الشعارات فيلتهمها. وكان يمدح الحاكم. ويتوسم خيراً في أنجاله.
هذا الشاب الذي يحتل الشاشة غريب. لا يستأذن والده. ولا زعيم العشيرة. ولا مسؤول الخلية الحزبية في الشارع. لا يريد التزين بالحكمة. ولا التحلي بالصبر. ولا الاكتفاء بغنيمة السلامة. يريد أن يكون مواطناً. وأن يكون حراً. وهذا غير قليل.
شاب لم يصل إلى مقاعد الجامعة بعد. يحتل الساحة. يشرع صدره العاري أمام «العربية» و»الجزيرة». يشطب جدار الخوف ويرفع صوته. يفكك هيبة النظام وقدسية القائد. يخاطب الحاكم كأنه يخاطب ابن الجيران المتهم. يقول له: ارحل. ارحل قبل فوات الأوان. ارحل مع بطانتك ومستشاريك. وإن تأخرت تنتظرك زنزانة ومصير قاتم شبيه بذاك الذي تفضلت به على مواطنيك.
هذا الشاب الغريب تفلت من كل القيود والحدود. كأنه هبط فجأة من كوكب آخر. يريد كرامته غير منقوصة. هذا فظيع. يريد أن يدخل الرئيس القصر بتفويض من صناديق الاقتراع. ويريد الانتخابات حرة وبرقابة دولية. لا يقبل الدستور حاجباً على باب المستبد. ولا القانون نادلاً مطيعاً يسهر على جمر نارجيلته. يريد أن يعرف سلفاً متى تنتهي ولاية الرئيس. ومتى يجمع الرئيس أوراقة ويرحل. ويصبح اسمه الرئيس السابق. هذا فظيع.
هذا الشاب الوقح لا تتوقف مطالبه عند حد. يريد القضاء مستقلاً. ويريده نزيهاً. ويريد حرمان صاحب القرار من متعة إعدام معارضيه بواسطة القضاء. ومن متعة دك المعترضين في السجون لتفوح رائحة أجسادهم المتعفنة. يريد أيضاً أن لا يدهم زوار الفجر منزله. أو أن يحمل من يأتي منهم أمراً قضائياً بالتوقيف. وأن يستجوب في حضور محاميه. وأن لا ينزه الجلاد حذاءه المدبب على رقبته وجبينه. وأن لا يفر النوم من عينيه بفعل استغاثات رواد الزنزانات المجاورة. وأن لا يكره على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها. وبمؤامرة لم يسمع بها. وبخيانة لفقها السيد الضابط ليكافأ بنجمة جديدة تقديراً لقدرته على إحباط المخططات المعادية.
محرج هذا الشاب. يريد أن يعرف أرقام الميزانية. وأين أنفقت وكيف. والممرات والشبكات والدهاليز. وكبار الفاسدين وصغار الجلاوزة. يزعم أن للشعب حق المراقبة. ينسى أن البلد مستهدف. وأن من مستلزمات المعركة إبقاء الغموض سيداً كي لا يستفيد العدو وينجح في تصديع الجبهة الداخلية والتلاحم التاريخي الذي يثير حسد الدول القريبة والبعيدة.
صدق أو لا تصدق. يريد أن يعرف عدد أفراد قوات الأمن. وعدد المخبرين. وكتاب التقارير. وأي قانون يحكم دسائسهم. ومن يرفع التقرير الأخير. ليخدع الحاكم. ويشجعه على المزيد من الأخطاء.
هذا الشاب العربي وقح. يريد كتاباً للتاريخ لم ينقحه مدير المخابرات. يريد خريطة للوطن لا تتوارى إذا انقضى عهد المتحكم. يريد كتاباً للتنشئة الوطنية لا يختنق متصفحه من كثافة البخور. يريد مدرسة طبيعية. وجامعة عصرية. وخبزاً غير معجون بماء الذل.
يصرخ العربي الشاب ضد قيوده. يطالب باستعادة جسده. وبالإفراج عن عقله. وبتحرير مخيلته. يجاهر بإيمانه بالتعددية. وبكرهه الزي الموحد. والفكرة الوحيدة العتيقة التي تحول البلد معتقلاً كبيراً. انه زائر غريب. ابن ثورة الاتصالات ومواقع التواصل وأزقة الإنترنت. وحدها الأيام المقبلة ستمتحن ادعاءاته. وما إذا كانت قدرته على البناء توازي قدرته على الاقتلاع. وما إذا كان قادراً على قبول الآخر. والتصالح مع العصر والانخراط في مسيرة التقدم.
الحياة