العروبة أمس واليوم
سليمان تقي الدين
لسنا اليوم كما كنا منذ نصف قرن. كانت مجتمعاتنا أكثر رحابة وتسامحاً وانفتاحاً وأحزابنا أكثر اختلاطاً وأوسع تمثيلاً وطنياً وفكرنا أكثر ليبرالية. كانت العروبة حاضنة لهذا المناخ أكثر مما هي صانعته. كانت الشعوب والقوى السياسية تفكر بالمشروع العربي كعنوان للتحرر والتقدم والوحدة، فوجدت في العروبة هذا الإطار الجامع. لكن الذين تولّوا استثمار العروبة حوّلوها إلى أداة لسلطاتهم، لنفوذ أحزابهم وقبائلهم وعوائلهم، وإلى قوة نابذة للانصهار الوطني والتكامل القومي. تعطّلت العروبة كمشروع نهضوي تقدمي له صياغة سياسية واضحة لتحل مكانها نزعتان متناقضتان متكاملتان: الكيانية التي تجسد مصالح النخب المسيطرة، والإسلاموية التي تتجاوزها إلى أممية دينية تحمل فكراً مهمشاً في أحسن الأحوال للأقليات أو للتنوع في المجتمع.
ليس عبثاً أن كل الأنظمة العربية عمّقت الانعزال السياسي داخل أقطارها كجزء من عملية مركزة السلطة وتطوير آليات الاستبداد. لم يعد خطاب العروبة يستخدم ولو بشكل ثانوي وصارت هوية النظام العربي شيئاً آخر فعلاً. انهارت محاولات إنشاء دوائر إقليمية مصغرة وقامت مكانها تحالفات ومحاور سياسية في مصالح الأنظمة ليست فيها مرجعية العروبة. تشكلت جبهة الدول السنية، عربية وغير عربية، وجبهة الأنظمة الملكية، إلى مشاريع أحلاف ومجالس تعاون آسيوية ليست لها ركائز ثابتة. كان تنافر المصالح السياسية والأمنية أقوى من تنافر الثقافات برغم أهميته في محاولة تشكيل تجمع إقليمي إيراني تركي سوري عراقي والتمدد نحو وسط آسيا. حضرت مصالح روسيا الدولية في دعم سوريا وانقلب الجار التركي على مرحلة من التعاون الواسع. لقد سخّفنا شعار الكيانيات العربية «مصر أولاً و….» غير أننا لم نكن نملك نقطة ارتكاز واقعية لمناهضة هذه الانعزاليات العربية التي انفكت جميعها عن المشروع العربي، حتى أنها لم تعد تتجمع من حول فلسطين ولا شعب فلسطين عاد يرتجي التحرير من المدخل العربي الواسع. لكن سقطة العروبة الأبشع يوم سلّم العرب باحتلال العراق وتفكيك وحدة شعبه ونزع الهوية العربية عن كيانه. ويوم صار النفوذ العربي في العراق وفي غير العراق يتوسط ويستخدم المكوّنات الطائفية والمذهبية. وها نحن اليوم نتحدث ليس عن «أمة قيد التكوين» كما اقترح العلماء السوفيات يوماً، بل أمة قيد التفكك إلى هويات فئوية من وراء الصراع على السلطة ولا شيء غير السلطة في اللحظة العربية الراهنة.
ليس المأزق العربي حالياً ناتجاً عن صراع قطري وقومي، وليس عملياً عن صراع عربي إسلامي، لأن الإسلام السياسي ابن بيئة النظام القطري ويرضخ للقواعد الأساسية في النظام العربي القديم. ولا يمكن لهذا الإسلام السياسي الصاعد أن يملك مشروعاً توحيدياً لا على المستوى الوطني أو العربي أو الإسلامي الأوسع.
هكذا تتوحّد النظرة إلى المتغيّرات العربية في اليمن والبحرين والعراق وليبيا وتونس ومصر وسوريا بوصفها متغيّرات في منظومة وتوازنات النظام العربي وليس بوصفها متغيّرات في معطيات الحياة السياسية العربية. حين يكون التغيير في البحرين أو اليمن أو الكويت محمولاً على بُعد مذهبي كما العراق أو لبنان، فالقياس نفسه يصح على سوريا. ما نجح فيه الغرب حتى الآن هو أن يجعل حركات التغيير في العالم العربي تفاعلات إقليمية ويستثمر على حروب الإخوة الأعداء والتناقضات الطائفية والمذهبية. ما يسميه البعض «فوضى خلاّقة» أو «شرق أوسط مفتتاً إلى إثنيات وطوائف» ليس صناعة أميركية غربية، وهو فوق ذلك المشروع الأخطر لتوحيد المنطقة لا إلى تفكيكها. فإذا كانت هذه النزاعات التي اندلعت هي تجزئة الكيانات الوطنية، فهي سائرة حتماً إلى الانضباط والاندراج تحت هيمنة إقليمية ودولية غربية أصلاً ولم نجد حتى الآن إلا الدور الروسي الذي يسعى لأخذ نصيبه من النفوذ، أو التركي بعد الإيراني.
إذا كانت الصورة الجيوسياسية كذلك فالسؤال الذي تطرحه الشعوب ليس الخيار بين وصاية وأخرى، بل بين الوصاية التاريخية التي عادت إلى المنطقة خلال عقود وشبكت مصالحها بالأنظمة السياسية القائمة، وبين احتمالات الحرية السياسية كمقدمة لكل حق آخر في الاختيار والمقاومة.
لا تأخذ الشعوب العربية حريتها السياسية اليوم بوصفها كماليات على فائض القوة والتقدم والحداثة العربية. تطلب الشعوب حريتها لأنها فقدت القدرة على احتمال الأنظمة التسلطية التي استنفدت إمكاناتها على تقديم مكتسبات وطنية أو اجتماعية. وليس أدل على هذا العجز من طبيعة الحركات السياسية التي نشأت في ظل هذه الأنظمة وهي لا تصدر عن بنية اجتماعية حداثية متقدمة. إذا كان التطرف الديني والمذهبي والعنف السياسي وثقافة إلغاء الآخر هي في عناوين هذه الحركات فلأنها عاشت في قعر المجتمع وظلامه السياسي وفي البطالة والفقر والمهانة والتمييز. فلا التطرف الديني ولا الهويات الفئوية حصيلة مخيلات ومحرّضات معنوية فقط، بل هي حصيلة مفارقات اجتماعية كانت السلطة مسؤولة عنها ومتفردة في المسؤولية ومبالغة في التجاهل والإنكار.
ما يُقلق في العالم العربي هو أن التدخل الخارجي يتلاعب بسياسة المنطقة ويريد إزالة الاعتراضات السياسية القائمة في وجهه، ولكنه عكس بعض الافتراضات ذات النزعة الأحادية العسكرية والأمنية، يقبض الآن على حركة المجتمعات وليس أمن الدول. أمكن في الماضي ويمكن اليوم وهو حاصل في غير موقع أن نطرد الاحتلال العسكري ولكن الإلحاق والتبعية والهيمنة على المصائر الاقتصادية والثقافية هو السمة الأساسية لمرحلة الإمبريالية ولمرحلة العولمة الراهنة. حين تتجوّف بعض الدول من القدرة على مقاومة هذا النوع من التحديات فهي لا تستطيع أن تستمر في خياراتها السياسية والاقتصادية.
لقد صار الأمن الاجتماعي اليوم هو مفتاح الأمن العسكري والسياسي. ولا تستطيع الرومنسية الوطنية أن تعوّض الحاجة إلى الشروط الإنسانية لتماسك هذه الوطنية. تزلزل العالم العربي وهو مستمر في استيلاد موجات من الصراعات المختلفة طالما أن الدول التي ترعى هذه المجتمعات ما زالت تقدم إجابات فاشلة وسياسوية وإيديولوجية وتقابلها نماذج مماثلة من حركات المعارضة، من دون أن نضع اليد على سر العالم المعاصر وهو التقدم الاجتماعي.