صفحات العالم

العسكرة: اختفاء المجتمع السوري/ ماجد كيالي

ماجد كيالي

منذ البداية كان يفترض بقوى الثورة السورية أن تحذر كثيراً من الانزلاق نحو انتهاج العسكرة في مواجهتها للنظام، وأن تتبصّر بمستلزمات ذلك وبتبعاته، لاسيما بحكم افتقارها للإمكانات، وكونها ثورة عفوية تفقتد للبنى التنظيمية وللإدارة السياسية والعسكرية. ولأن العسكرة ليست عملاً اعتباطياً، فإلى كلفتها البشرية والمادية الباهظة، فهي تحتاج، أيضاً، إلى مصادر تسليح وموارد مالية وممّرات عبور، وكلها تتطلّب إرادات دولية وإقليمية، وارتباطات استخبارية.

لا يتعلّق الأمر هنا بنقاش شرعية الثورة المسلحة، وإنما بمناقشة ذلك في محصلة هذه التجربة، مع التمييز بين العمل المسلح الناشئ من حاجات الدفاع عن النفس، وكنتاج لظاهرة المنشقين من الجيش، والعمل المسلّح الذي نشأ من توظيفات خارجية تحوم حولها الشبهات.

هكذا، فقد نجم عن انتهاج هذه الثورة خط العسكرة انزلاقها نحو المخاطر التالية:

أولاً، ارتهان مصيرها لسياسات وتوظيفات بعض القوى الدولية والإقليمية والعربية، بدلاً من ارتهانها لإرادة شعبها، ما نجم عنه التلاعب بها، والتحكّم بوتائرها، وبأشكال عملها، وحتى بخطاباتها.

ثانياً، إضعافها البيئات الشعبية الحاضنة لها، أكثر بكثير من إضعافها النظام، فهي في عمليات “التحرير”، مثلاً، سهّلت له تدفيع السوريين ثمن مساندتهم لها، بتدميره بيوتهم وممتلكاتهم وتشريدهم، بخاصة أن مناطقهم “المحررة” باتت مجرّد مناطق محاصرة ومعزولة ومعدومة الحياة، وقد تحولت خرائب بعد أن أضحت بمثابة حقول رماية للطائرات والمدفعية والقناصة.

ثالثاً، نجم عن عمليات “التحرير”، غير المدروسة لا لجهة الإمكانات ولا لجهة ارتباطها بخطة عامة، اختفاء مجتمع السوريين من مشهد الصراع، بسبب النزوح هرباً من القصف الوحشي، الذي بات معروفاً أن مناطقهم ستتعرّض له. ومسؤولية الثورة هنا أنها لم توجه طاقتها نحو ضرب المواقع العسكرية للنظام، مثلاً، بدل الاحتماء بالحواضن الشعبية التي هي أصلاً متعاطفة معها. والمشكلة أن الجماعات المسلحة تشتغل بدون أي تنسيق وبدون أي خطة، ولاتراجع أشكال عملها رغم أنها تشكو قلة الإمكانات، وعدم توافر أسلحة مضادة للدبابات والطائرات لديها للدفاع عن هذه المناطق.

رابعاً، الأنكى أن الثورة لم تنجح في فرض الأمن والأمان في مناطقها “المحرّرة”، ولا في خلق إدارات محلية بديلة، أو مقنعة، مع سيادة الفوضى وانعدام الأمن وتسلط الجماعات المسلحة والمتطرفة فيها، التي تحوم الشبهات حول بعضها. ومعلوم أن بعض المناطق باتت تشهد تظاهرات ضد هذه الجماعات بسبب تصرفاتها ومحاولاتها فرض تصوراتها المتشددة والغريبة عن مجتمع السوريين وعن ثقافتهم،وحتى عن مقاصد ثورتهم، التي دفعوا في سبيلها أبهظ الأثمان.ربما الوقت قد فات لكن الأمر يستحق المراجعة والتبصّر.

كاتب فلسطيني

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى