صفحات الرأي

العقائد حين تنضمّ إلى محاربة الشعوب/ مرزوق الحلبي

 

هناك مَن يُصرّ على رؤية الحاصل في سورية صراعاً بين الإمبريالية والمناهضين لها وضمنهم النظام الدموي. وعلى رغم ما حصل من تدمير للمجتمع والدولة والحيز والمعالم، لا تزال التنظيرات عن الإمبريالية تنهال علينا (وعليّ بشكل شخصي) من «رفاق الأمس» وذرّيتهم من شبان متحمسين يرون الدنيا من خرم عقيدتهم الجامدة.

هناك نوع من الطمأنينة في مَفْهَمة التدمير في سورية بثنائية الإمبريالية ونقيضها. فإذا افترضنا أن النظام هو نقيضها، فمن السهل تبرير كل جرائمه ضد شعبه وضد الإنسانية. مَفْهَمة أيديولوجية كهذه ظاهرها ثورية ووعي طبقي أو ماركسي أو عروبي ممانع، لكن باطنها هتاف للفتك بالشعب السوري. ومن هنا اقتراحنا على أيتام الماركسية السوفياتية (الذين يرون في نظام بوتين الجلف استمراراً لـ «الاتحاد السوفياتي العظيم نصير الشعوب») أن يروا إلى الحاصل في سورية بأدوات تحليل أخرى غير ما يعرفونه من عقيدة مبتسرة تعسفية.

همسنا ونهمس في آذانهم بأن البقاء في وحل هذه المَفهَمة يعني منح الشرعية بأثر رجعي لدموية ستالين وتصفيته الملايين باسم تطبيق الاشتراكية وقبولاً بالتوتاليتارية ومفاعيلها المُهلكة. همسنا ونهمس مجدداً في عيونهم مباشرة أن الوقوف مع الشعب السوري الذي أراد التخلّص من طاغيته هو بداية تكوين الموقف الصحيح وأن الشعب السوري يتعرّض للقمع منذ 40 سنة على الأقلّ وأن مطالبه بحريات عامة وسياسية وبحقوق الإنسان والمواطن لم تبدأ الآن من حادثة درعا. ووضّحنا أن دخول قوى خارجية على الخط خلط الأوراق تماماً وأضاع الفوارق، وأن المراهنة على المنظمات الإسلامية المسلّحة المرتزقة خطفت الثورة المدنية وأعاقت تقدمها. ونعرف أن سجالاً دولياً وإقليمياً يحصل على الأرض السورية منذ تفجّر ثورة شعبها، يسعى الى استثمار ذلك لتحقيق مصالحه. ولا يختلف في هذا محور عن محور.

على رغم هذا وذاك، لا نزال على موقفنا من حق الشعب السوري في نظام بديل وفي ممانعة كل شيء، كل شيء، يعتقده مناهضاً لثورته المخطوفة ولحقّه في الحريات كافة وفي دولة معقولة. وليس خافياً على أحد هوية هذا الشعب والمنظمات العاملة باسمه والتي تضطر إلى محاربة النظام المستبدّ الدموي ومواجهة نقيضه الدموي المتمثّل بمنظمات أصولية عنيفة تلتقي مع النظام في ثلاث نقاط على الأقلّ:

أولاً: شمولية عقيدتها ودمويتها. ثانياً: كونها تطرح نفسها بديلاً للسياسة والشعب والدولة. ثالثاً: كونها تناهض الفكرة الديموقراطية ومستعدة للتحالف مع النظام في أكثر من موقع لتدمير المساحات الخضر والانقضاض على الفكر الحر لأنه يشكل تحدياً لها، وكل هذا مقابل الدولار المدفوع من النظام الإيراني أو من منطلقات تكتيكية ميدانية. وهذا معناه أن الشعب السوري الذي بدأ حراكه سلمياً، يجد نفسه مضطراً لمواجهة على جبتهتين: جبهة ضد النظام وحلفائه مثل روسيا بوتين و «حزب الله» وطهران ومرتزقة أفغان وعراقيين وجبهة المنظمات الأصولية القاعدية والداعشية وما شابهها من جهات جاهزة للقتال والتدمير في أي مكان ولأي سبب!

إعادة ترسيم الخطوط تساعدنا من دون شك في تحديد نقطة ارتكاز لمَفهمة الحرب هناك. وتساعدنا على العزوف عن اعتماد مواقف ضدية: ضد السعودية أو ضد قطر أو ضد الإمبريالية كما صاغها أوائل الماركسيين وتغيّرت منذ ذلك الوقت وتحوّلت بحيث لم تعد أخطر من سعي إيراني الى الهيمنة وترسيخ القدم على شاطئ المتوسط، أو من وحشية روسية تقامر بالشعب السوري للاحتفاظ بامتيازات على الساحل وفي قصور دمشق.

ولأنني أقدّر أن العقائديين يقدسون مفهوم السلطة، فإنهم يبررون بالفطرة كل ما تلجأ إليه من آليات تدمير وقمع وموت، كما يفعل النظام السوري الآن، فيما هم يرون الخطر في استخدام الشعب للقوة المضادة على شكل تمرّد أو ممانعة أو عمل مسلّح. هذا على رغم ادعائهم «ثورية» ما، خصوصاً الذين يحاولون منهم أن يُقنعونا بأنهم يخوضون نضالاً في إسرائيل ضد القهر والقمع والسياسات التي تقطر عنصرية. لا أفهم كيف يُمكن هؤلاء أن يقفوا ضد هدم بيت في الجليل مثلاً، وبحق، ويكونوا مستعدين للدفاع العنيف الفاجر أحياناً عن الأسد وإلقاء طائراته البراميل المحشوّة بالبارود أو الكلور فوق رؤوس العباد! وإذا سألناهم عن هذه الازدواجية التي اكتشفها الإسرائيليون ونفذوا منها للتقريع والسخرية وردّ التُهم عنهم والانقضاض منها علينا جميعاً، أجابوا بالإشارة إلى «داعش» وجرائمه.

ونقول: لكنهما وجهان لعملة واحدة وكلاهما وحش على طريقته وكلاهما يغتال الحياة السورية والأحلام ويفتك بالبشر ويُنهي وجود الدولة كعقد ومواطنة. فيعودون إلى فزاعة الإمبريالية! وهكذا بشكل عقيم يدورون في دورة مغلقة تُجسّد تصحراً في العقيدة وعجزاً عن تجاوز النص. إنهم علمانيون أصوليون مأسورون في كهوف عقائدهم يتباكون على هدم بيت في النقب ويهتفون لمَن يُدمر حلب وحمص وربوع سورية الوطن والدولة والمكان باسم عقيدة بائدة. وهم بذلك إنما يعطوننا أنموذجاً لمفاعيل العقائد في ثقافتنا العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. عقائد ثورية متنوّرة تصير عند العربي المتوسط مجرّد منظومة تبريرية لأكثر الجرائم وحشية. وهنا، يصحّ ما قاله الصـــديق جورج طرابيشي: «العقلية عندنا تُجهض العقل» أو بكلمات أخرى: الأنساق تُجهض المعرفة! فلا يكون هناك أي فارق بين عقائدي متدين أو علماني، اشتراكي أو ماركسي أو قومي أو بعثي أو عـــروبي. «كلهم في الهوا سوا» يهتفون للجريمة وللطاغية. ربما لأنهم لم يتحرروا من القهر فسكنهم التوق إلى القوة المـــشتهاة، إلى الاستــبداد والبطش كثقلٍ موازٍ للضـــعف الذي يستبطنونه في دواخلهم!

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى