العلاقة الكردية الإسرائيلية.. النظرة العربية وجدل الرهانات/ خورشيد دلي
منذ أحداث الموصل وسيطرة الأكراد على كركوك، والحديث الدائم لزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، عن إقامة دولة كردية، والتصريحات الإسرائيلية المؤيدة لهذه الدولة، لم تتوقف موجة ردود الفعل عن العلاقات الإسرائيلية الكردية، لحساسية الموضوع أولاً، وثانيا للموقع الجغرافي المهم لكردستان، وأهميته لكل من العراق وتركيا وسورية وإيران، حيث يتوزع الشعب الكردي بين هذه الدول، ويجمعه الحلم القومي بإقامة دولة كردية، بعد أن حرم منها، بحكم الاتفاقيات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى.
وعليه، من المهم جداً معرفة كيفية تناول الكتاب والمفكرين العرب والأكراد، على اختلاف تياراتهم الفكرية القومية والدينية واليسارية هذا الموضوع، بإشكالاته المتعددة، وهل كانت المعالجات والرؤى في مستوى الوعي السياسي المطلوب، لأهمية النسيج المتداخل للعلاقات التاريخية والحضارية بين العرب والأكراد؟ وهل كانت القراءات مدركة للمحاولات الإسرائيلية لقطع وشائج هذه العلاقات، وإفراغها من حواملها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لصالح المخططات الإسرائيلية التي تستهدف العرب والأكراد معا؟
بداية، ينبغي الإشارة إلى عاملين مهمين في السياسة الإسرائيلية تجاه العراق:
الأول: موقع العراق، تاريخياً ودينياً، بالنسبة إلى اليهودية والصهيونية أزلي، فالأدبيات اليهودية تقر بأن وجود اليهود يبدأ من أرض العراق، إذ قبل نحو أربعة آلاف عام، تلقى إبراهيم عليه السلام (يعده اليهود جدهم الأول) أوامر إلهية بالهجرة من أرض العراق إلى أرض كنعان، حسب الروايات اليهودية. وتعد الجماعات اليهودية في العراق الأقدم بين الجماعات اليهودية في العالم، حيث تعود أصولهم إلى فترة السبي البابلي، في القرن السادس
قبل الميلاد، على يد نبوخذ نصر الذي نقل اليهود من أرض فلسطين التاريخية إلى أرض العراق. وقد هاجر قرابة 150 ألف يهودي من العراق إلى إسرائيل في عامي 1950- 1951 في إطار العملية المعروفة التي اشتهرت بحملتي (عزرا ونيحميا). وإلى الآن، يتحدث اليهود عن مقدساتٍ لهم في العراق (قبر عزرا الكاهن، مدفن النبي حزقيال أو الكفل، مرقد يوشع كوهين، وقبر ماحو الألقوشي …)، فاليهود ينظرون نظرة تاريخية إلى وجودهم في العراق، وإنْ كانوا لا يقولون ذلك في الاعلام علنا.
الثاني: فتح احتلال العراق عام 2003 الباب واسعاً أمام المشروع الصهيوني لاختراقه، وعليه، فإن العراق، في الاستراتيجية الإسرائيلية، لم يعد القوة الأمنية المهددة لأمن إسرائيل فحسب، بل بات البلد الذي تتنازعه الانقسامات السياسية والطائفية والقومية والجغرافية، أي العراق الذي يمثل اللبنة الحقيقية للمشروع الشرق أوسطي الإسرائيلي، وبما يتناسب مع الاستراتيجية الإسرائيلية في إضعاف الدول الإقليمية وتفكيكها.
في إطار هذين العاملين، تبدو العلاقة الإسرائيلية الكردية مسألة قائمةً، قديماً وحديثاً، وليس من الأهمية نفيها، أو تأكيدها، بقدر أهمية كيفية النظر إليها، والغايات منها، فالعلاقة تعود إلى أكثر من نصف قرن، وشهدت صعوداً وهبوطاً، تبعاً لعلاقة الأكراد ببغداد. ولمعرفة تفاصيلها، يمكن الرجوع إلى كتاب (الموساد في العراق .. انهيار الآمال الإسرائيلية والكردية) لمؤلفه شلومو نكديمون (دار الجليل، عمان 1997، ترجمة بدر عقيلي)، ففيه من الوقائع والتواريخ والأحداث والصور، ما يكفي لوضع حد للجدل الدائر بشأن وجود هذه العلاقة، أو إنكارها. ولعل السؤال الجوهري: ما أسباب العلاقة الإسرائيلية الكردية ودوافعها؟ هل هي فعلا الوقوف مع شعب مضطهد، كما تدّعي إسرائيل، أم هناك أسباب أخرى؟ في المقابل، ما الذي يدفع الأكراد إلى إقامة علاقة مع إسرائيل، وهم يدركون أنها تجلب لهم مزيداً من المشكلات مع الدول العربية والإسلامية؟
تأويلات كردية
في محاولة للإجابة عن السؤالين، لعل من المفيد التوقف عند نظرة الكتاب والمفكرين العرب والأكراد لهذه العلاقة، وطريقة تناولهم الموضوع، ولنبدأ من الردود الكردية، والتي اختصرها بما يلي:
1- يرى قسم منهم أن لا مشكلة على الإطلاق في إقامة علاقات كردية إسرائيلية، ما دامت تخدم الآمال الكردية، وتدعم حقوقهم القومية، سواء في إطار عراق موحد أو خارجه، بل يرى هؤلاء أن العلاقة مع إسرائيل تحقق نوعاً من الحماية للأكراد، وتقويهم أمنياً وعسكرياً وسياسياً، في وجه المخاطر التي تهددهم. ويذهب بعضهم أكثر من ذلك إلى تأكيد أن العلاقة الجيدة بإسرائيل كفيلة بتأمين الدعم والحماية الأميركية للأكراد في وجه المخاطر الإقليمية التي تهددهم. وعليه، يطالب هؤلاء بعلاقة مفتوحة مع إسرائيل، حتى لو استفادت الأخيرة من هذه العلاقة لصالح مخططاتها تجاه العراق والمنطقة.
2- قسم آخر يرى أنه لا يمكن أن نكون عرباً أكثر من العرب أنفسهم في مسألة العلاقة بإسرائيل، والاعتراف بها، وهؤلاء يسألون عما إذا كان يعقل أن تكون هناك علاقات رسمية وسفارات بين دول عربية وإسرائيل، فيما يراد حرمان الأكراد من أي علاقة مع إسرائيل؟ وهل يعقل ان يتعانق الفلسطينيون (السلطة) والإسرائيليون أمام الكاميرات، بينما يدرج العرب أي علاقة كردية إسرائيلية في إطار الخيانة والمحرمات؟ ويعتقد هؤلاء أن العرب ينظرون إلى الأكراد كمواطنين من الدرجات الثانية والثالثة والرابعة، ولا يمكن أن يبقوا هذا الحال إلى ما لا نهاية.
3- يرى قسم ثالث أن ثمة تضخمياً إعلاميا بشأن العلاقات الكردية الإسرائيلية من دول إقليمية، بهدف تأليب دول المنطقة وشعوبها على الأكراد الذين يتمسكون بحقوقهم القومية. ويرى هؤلاء أن إيران وتركيا تعملان على هذا النحو، بهدف جلب مزيد من الضغط على الأكراد، لأسباب تتعلق بمخاوفهما العميقة من انعكاس قيام دولة كردية في العراق على القضية الكردية في البلدين، فضلا عن التنافس الإقليمي مع إسرائيل على المنطقة.
4- قسم رابع يقول إن مسألة تغلغل الموساد في إقليم كردستان تفصيل بسيط في إطار تغلغله، ليس في العراق فحسب، بل في مجمل دول المنطقة، إلى درجة أننا، في كل يوم، نسمع عن اكتشاف شبكة أنشأها الموساد في هذا البلد أو ذاك. وبالتالي، ليس إقليم كردستان العراق استثناءً. ويؤكد هؤلاء أن لا صحة للمعلومات التي تقول إن الموساد جعل من كردستان قاعدة للتجسس على دول المنطقة، خصوصاً وأن شبكاته موجودة في هذه الدول. ويتساءلون: هل يعقل أن تتعاون أجهزة الموساد مع أكراد العراق، في تركيب أجهزة للتجسس على المفاعلات النووية الإيرانية (بحسب الكاتب الأميركي سيمور هيرش في صحيفة نيو يوركر)، فيما المسافة بين أقرب موقع نووي إيراني وإقليم كردستان 1500 كيلومتر؟ ثم إن إقليم كردستان الذي له علاقة جيدة مع إيران وتركيا غير مستعد لاستعداء البلدين بسبب العلاقة مع إسرائيل، وهو يدرك حساسية هذا الأمر لهما.
نظرات عربية
وإذ راوحت الردود الكردية بين تأكيد على حق إقامة علاقات مع إسرائيل من دون أي اعتبار للعوامل الإقليمية والحضارية ومحاولات تبرير هذه العلاقة ومحاولة وضعها في إطار سياق عام يجري في المنطقة والقول إن جهات تريد الإساءة إلى الأكراد وعلاقاتهم التاريخية بالعرب والفرس والأتراك، فإن الردود العربية راوحت بين التخوين والتعبير عن الخوف والقلق، انطلاقا من أولوية الصراع مع إسرائيل. ولعل من أبرز هذه الردود:
1- قسم اعتبر أن مجرد إقامة علاقة كردية إسرائيلية خيانة للأمة العربية من الأكراد، بل ذهب بعضهم إلى تشبيه كردستان بإسرائيل ثانية، وتشبيه الأكراد باليهود، وبعض آخر أطلق أخيراً مصطلح (إسرائيل العراق). وإذا كان التيار القومي العربي قد انطلق، في حكمه هذا، من قضية الصراع العربي الإسرائيلي، فإن التيار الديني، وتحديدا الإسلامي، انطلق من رؤية دينيةٍ، تقوم على نوع من الصراع مع اليهودية، بمفهومها السياسي. وفي الحالتين، يرى هؤلاء أن الأكراد، كشعب مسلم يعيش مع الشعب العربي تاريخياً، لا ينبغي أن يقيموا علاقات مع إسرائيل، وهذا، بالنسبة إليهم، ينطبق على الدول العربية أيضا.
2- يحاول بعضهم تحميل مسؤولية إقامة مثل هذه العلاقة إلى القيادات الكردية، وتحديداً الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة رئيس الإقليم مسعود البرزاني، وتبرئة الشعب الكردي منه، مشيراً إلى أن هذه القيادات دمية تحركها أميركا وإسرائيل، ملمحين، في الوقت نفسه، إلى أن هذه القيادات ستدفع الثمن، حالما تستوي الأوضاع. ويستشهد هؤلاء بما جرى للبارزاني الأب (الملا مصطفى)، وتجربته مع أميركا وإسرائيل وإيران عام 1975، عندما تخلت الدول الثلاث عنه، وتركته هو وقوات البشمركة في مرمى الدبابات والطائرات العراقية، حيث اضطر عشرات آلاف الأكراد إلى الهروب إلى إيران عبر المناطق الجبلية الحدودية.
3- قسم ثالث يحاول إرجاع العلاقة الإسرائيلية الكردية إلى سياسة إسرائيل تجاه الأقليات القومية والدينية في العالم العربي، في إطار السياسة الإسرائيلية التقليدية الرامية إلى إضعاف الدول العربية والإسلامية، وإشغالها بالقضايا الداخلية، وحتى تقسيمها، بغية إبعاد طاقاتها عن معركة الصراع العربي –الإسرائيلي، بل وإمكانية وضع هذه الدول تحت هيمنة المشاريع الإسرائيلية سياسيا واقتصاديا وأمنيا.
4- فئة قليلة تلقي بالمسؤولية على الدول العربية، وممارساتها الخاطئة تجاه الشعوب والأقليات غير العربية، ويرى هؤلاء أن هذه الممارسات الخاطئة هي التي تدفع بهذه الشعوب والأقليات إلى التحالف مع أعداء العرب، للحفاظ على وجودها وتحقيق مطالبها وحقوقها.
من دون شك، تكشف الردود العربية والكردية المذكورة عن زاوية الرؤية لدى الجانبين، وإشكالاتها وأسبابها ودوافعها، كما تكشف عن محاولة كل جانب تقديم الحجج التي تصب في الزاوية التي ينظر بها إلى الأمور، انطلاقاً من أيديولوجيته القومية والدينية، والأولوية السياسية للصراع. والسؤال الذي يطرح نفسه، هنا، هل ترتقي المعالجة السياسية إلى مستوى العلاقة التاريخية بين العرب والأكراد؟ ولعل للسؤال السابق أهمية قصوى، إذا ما أخذنا تجربة صلاح الدين الأيوبي بالاعتبار في تاريخ هذه العلاقة.
تمايز الأصيل عن الغازي
في إحدى اللحظات الحاسمة من العلاقات الإسرائيلية الإيرانية بأكراد العراق (مفاوضات يوليو/ تموز 1966 بين الزعيم العراقي، عبد الرحمن البزاز، والزعيم الكردي، الملا مصطفى البرزاني، وكادت أن تنتهي إلى اتفاق بشأن الحكم الذاتي للأكراد). ينقل شلومو نكديمون، في كتابه السابق، عن البرزاني لضابط الموساد المكلف بالعلاقة مع الأكراد: أحلام الإيرانيين تتمثل في أن يقتل الأكراد والعراقيون أحدهما الآخر، في حين ترغبون أنتم في زوال العراقيين. وعلى غراره، يكتب الصحفي الأميركي، جوناثان راندل، في كتابه (أمة في شقاق .. دروب كردستان كما سلكتها)، أن العلاقة مع إسرائيل لم تكن مهمة للملا مصطفى البرزاني، وكان سيتخلى عنها بلمحة عين، لو أن العرب أعطوه تنازلاً ما. وينقل عن البرزاني: أنا مثل الشحاذ الأعمى الواقف عند باب الجامع الكبير في السليمانية، والعاجز عن رؤية من يضع في يده الممدودة قطعة نقدية.
السؤال هنا، ألا يعبر حديث الملا مصطفى البرزاني عن وعي سياسي مدرك للسياسات الإسرائيلية وغير الإسرائيلية تجاه العراق؟ وفي الوقت نفسه، عن خيبة أمل كبيرة من عدم التجاوب الرسمي في الاعتراف بالحقوق الكردية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فمن أوصل البرزاني إلى الدرجة التي يشبه فيها نفسه بالشحاذ الواقف على باب الجامع الكبير في السليمانية؟ في الواقع، من يقرأ تاريخ العلاقة بين بغداد وأربيل يرى أن ثمة معادلة تتحكم بها، هي أنه كلما كانت العلاقة سيئة، توطدت العلاقة بين الموساد والحركة الكردية، والعكس صحيح. وعليه، ينبغي النظر، هنا، إلى أن شكل العلاقة بين بغداد وأربيل هو الذي، غالباً، ما يحدد طبيعة العلاقة الكردية الإسرائيلية، صعودا أو هبوطا، ما يكشف عن الخلل الكبير في السياسة وممارساتها. وإذ يشبّه كتاب عرب الأكراد بالإسرائيليين، وكردستان بإسرائيل ثانية، فالسؤال، هنا، هل هذا التشبيه صحيح وعلمي، ويخدم القضية العربية والعلاقات العربية الكردية؟
من دون شك، ثمة مغالطات كبيرة في التشبيه، فالأكراد شعب مسلم، وهو من السكان الأصليين في المنطقة، ويعيش على أرضه التاريخية منذ القدم، وله مساهمات مفتوحة في التاريخ العربي والإسلامي، خلاف الإسرائيليين الذين هم تجمعات بشرية، تم استقدامها من مختلف أنحاء العالم للاستيطان في فلسطين واستعمارها، فكيف يجوز تشبيه الأكراد بالإسرائيليين؟ كما أن تشبيه كردستان بإسرائيل ثانية مسألة تفتقر إلى الدقة والمنطق والعلم، فحتى لو أدت الظروف إلى إقامة دولة كردية، لا تجوز هذه المقارنة، لأن دولة كردية على أرض كردستان يمكن أن تكون مسالمة ومتحالفة مع العرب والأتراك والإيرانيين، على أسس من العدالة والمساواة والمصالح، خلاف إسرائيل التي أقامت دولتها على أرض شعب آخر هو الشعب الفلسطيني بالعدوان والحرب والاستيطان والتهويد والتهجير.
أغراض إسرائيلية ومخاوف
بقيت نقطة، هي أن لإسرائيل أغراضاً كثيرة في التسويق، والقول إنها تؤيد إقامة دولة كردية، ولها علاقات متطورة مع الأكراد، ولعل من أهم هذه الأغراض: إيجاد عداوات بين الأكراد والشعوب العربية والإيرانية والتركية، إثارة مزيد من المخاوف لدى دول المنطقة، ودفع أنظمتها إلى ممارسة المزيد من القمع ضد الأكراد، فالمطلوب إسرائيليا أن تكون دول المنطقة في ظل حكم دكتاتوريات، القول للدول الإقليمية إن إسرائيل قوية وقادرة على اختراق أمنكم، وممارسة نوع من الابتزاز السياسي، للحصول على مكاسب كثيرة، منها الاعتراف بإسرائيل.
وأخيراً، تريد إسرائيل من تصريحاتها الداعمة لإعلان دولة كردية سرقة إنجازات الشعب الكردي، وتضحياته في سبيل نيل حقوقه، فبالتأكيد، المنطق الإسرائيلي، هنا، ليس إنسانياً، أو له علاقة بدعم حقوق الشعوب وحريتها، لأنه لو كان ذلك كذلك، لما اقترفت كل هذه الجرائم ضد الشعب الفلسطيني، وعلى الأقل، لكانت اعترفت بدولة له على حدود عام 1967، وإذا كان العرب والأكراد يريدون أن يكون لعلاقاتهم التاريخية شأن في المستقبل، فعليهم أن يتجاوزوا تهم التخوين وإطلاق الصفات والنعوت إلى التفكير الهادئ بالأسس التاريخية والاجتماعية والحضارية والاقتصادية لهذه العلاقة، وذلك كله غير ممكن، إلا بالتخلص من الممارسة السياسية الخاطئة والمفاهيم الضيقة والمواقف الأيديولوجية المسبقة التي أوصلت الأمور إلى ما نحن عليه الآن.
العربي الجديد