صفحات الرأي

العلاقة الملتبسة بين الدين والتديّن

موسى برهومة *

ينتسب الباحث المصري والمستشار السابق عبدالجواد ياسين إلى كتيبة من المثقفين العضويين الذين سعوا، على تباين مقارباتهم لأزمة الخطاب الإسلامي، إلى محاولة الإجابة عن الأسئلة الملحّة التي تدق بقبضتها الغليظة خزّان الحيرة في عالم متحوّل شديد الإيقاع، يهدد من لا يجاريه بالخروج من مضماره، ويدفعه بعيداً من قارعة التاريخ.

لذا اختار ياسين الاشتباك مع الموروث الديني، وفضّ عرى العلاقة الملتبسة بين الدين والتديّن، والقائمة على ذوبان التاريخي في المطلق، واتساع المطلق ليشمل كل مفردات العيش، مهما تضاءلت، أو قلّ شأنها، وهي المرحلة التي جرى فيها «تحويل العُرف إلى نص»، كما يقول الباحث.

ويمثل كتاب «الدين والتديّن» الصادر أخيراً عن دار «التنوير»، ذروة الكثافة المنهجية، والتأصيل النظري في أعمال عبدالجواد ياسين، إذ راح يلقي ظلالاً كثيفة، وإن بدت بعيدة، على اللحظة الراهنة التي يتم فيها اختطاف الدين، وإعادة إنتاجه وفق الترسيمات الفقهية التي وضع أصولها الشافعيّ الذي يعدّه ياسين في كتابه السابق «السلطة في الإسلام» بمثابة «المؤسس النظري للعقل الفقهي».

ولعل «جناية الشافعي» تكمن في تحويله اللانص إلى نص يمتلك من القوة التشريعية والطاقة الدلالية ما للنص الأصلي وهو القرآن، بمعنى أن الشافعي وحّد بين الإلهي والبشري، وجعلهما على درجة متساوية من الإلزام.

إلى جانب ذلك، وفي كتابه «الرسالة»، قرر الشافعي أن «ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا في كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها». وهذا الإقرار الشافعي، الذي رأى صاحبه في ما بعد، أن «النص يغمر الحياة» هو الذي حوّل العقل الإسلامي إلى «عقل تابع»، إذ لا تزال ارتدادات ذلك الزلزال تنسحب على الثقافة العربية الإسلامية حتى الوقت المعاصر، وهو ما تنبه إليه الراحل محمد أركون الذي عزا «سيطرة التقليديين والأصوليين السلفيين على الشارع العربي، بل والإسلامي كله، إلى تلك النظرة التي أصّل لها الشافعي في لحظة ثقافية منغلقة في إطارها الزمكاني»، مع أن ياسين يعتبر أن تلك اللحظة الشافعية «تعكس نمط التفكير الديني في لحظة توهجه القصوى»!

إن خطورة التأصيل الفقهي الشافعي أنه عطّل الفاعلية الإبداعية للإنسان، وعمل على تكبيل إرادته، وتعطيل خبرته التاريخية، فضلاً عن عدم امتثال «العقل الشافعي» للمقاصد الكلية للشريعة، وهي المقاصد التي حكمت عقل الكثير من الفقهاء وفي مقدمهم أبو حنيفة الذي لطالما غلّب العقل في النظر إلى الأحكام الشرعية.

إن إشكالية الدين والتديّن تقع في صلب قضية تأويل خطاب الفقه؛ فبمقدار ما يراعي هذا الخطاب المصالح العامة للإنسان، تتضاءل مساحة التديّن التي تسعى إلى إكراه الدين على الاستجابة لشروطها ومصالحها، وهو ما يقوم به العقل الإسلاموي البراغماتي في زمن «الربيع العربي»، عبر حرمان الخطاب الإلهي من طاقة الفهم المعاصر.

هذا العقل يعتبر الشافعيَّ منظّرَه الأسمى، ولا غرو في أن يحيطه بقداسة ترقى إلى قداسة الأنبياء، فلولا الشافعي لظل العقل الإنساني هو مناط التفكير، ولأضحى انفكاك الدين عن الحياة أمراً ممكناً، ولتعذر وفقاً لشروط التطور التاريخي أن يغمر النصُّ الحياة، ويقدّم إجابات كلية عما مضى، وما سيمضي في المستقبل غير المنظور المكتَنَف في طيات الغيوب!

وإن شئنا البحث عن حلول منهاجية لهذه المعضلة التي تحكم العقل والفعل الإسلاميين في هذه القنطرة التاريخية المرتبكة، فعلينا المبادرة إلى تدشين عهد فكري جديد يقوم على انبثاق نظرية تأويلية إسلامية معاصرة، تنزع الغلالات الكثيفة المحيطة بالنصوص الدينية التأسيسية، وتكشف الاستثمار الإيديولوجي النفعي لها، وتستجيب التحديات الراهنة وتجبهها.

* كاتب أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى