صفحات العالم

العنف السياسي وتداعياته: الحالة السورية


أحمد يوسف أحمد

تطورت أحداث الثورة في سوريا مؤخراً على نحو ينبئ بتصعيد هائل للعنف بين نظام الحكم وقوى الثورة. وليس هذا فحسب وإنما يشير أيضاً إلى فقدان النظام سيطرته على المفاصل الحساسة في بنيته، ومن ثم إلى قرب نهايته، فليس هناك أكثر دلالة على فاعلية قوى المعارضة من ذلك الانفجار الذي وقع الأسبوع الماضي في مكان يعد من قلاع النظام الرئيسية، وأودى بحياة نفر من أفراد الدائرة الضيقة اللصيقة بالرئيس السوري من ذوي الأدوار الأساسية في قمع الثورة. ومنذ البداية تبنت القيادة السورية الحالية خطاباً سياسياً لم يحدث فيه أدنى تحول حتى الآن، وذلك على رغم الشواهد العديدة التي لا تقبل الجدل حول فساد هذا الخطاب، وهذا يدل بلغة التحليل السياسي على أن تلك القيادة لديها “صورة مغلقة” عن الوضع السوري وتطوراته، و”الصور المغلقة” لا تكون قابلة لأي تطوير تحت تأثير المتغيرات التي تحيط بها، ويترتب على هذا أن يكون إدراك صانع القرار للموقف مشوهاً ومحرفاً، وهكذا تكون قراراته في مواجهة هذا الموقف غير سليمة أصلاً.

منذ البداية أصر الرئيس السوري -كما فعل غيره من قبله- على أن سوريا ليست تونس أو مصر، وذلك على الرغم مما رآه لاحقاً من انتهاء حكم معمر القذافي في ليبيا بمقتله، وإزاحة الرئيس اليمني السابق عن كرسي الرئاسة من خلال تسوية مهما كانت معيبة إلا أن الفضل كان لها في تحقيق هذا الإنجاز، وربما زين بعض النخب العربية -التي لم تكن ترى فيما يجري إلا مؤامرة خارجية على سوريا ونظام حكمها الممانع- للرئيس السوري هذا الانغلاق المطلق في فهم ما يجري، وكذلك فعل بعض المواقف الإقليمية والدولية. ولذلك ظل الرئيس السوري يصف المشاركين في الثورة بأنهم جماعات إرهابية مدفوعة وممولة من الخارج للقضاء على موقف الممانعة في الصراع العربي- الإسرائيلي الذي يتبناه نظام الحكم السوري الراهن، وثابر على هذا الإدراك على رغم تزايد أعداد المشاركين في الثورة وانتشارهم جغرافياً في مختلف الأقاليم السورية. ونتيجة لهذا كله تعامل مع قضية “الإصلاح السياسي” -الذي كان من شأن الجدية فيه أن تنقذه في البداية من التصعيد الذي جرى لاحقاً- وكأنه حاكم يمن على شعبه في ظروف استقرار راسخ، ولذلك لم تجدِ خطواته نفعاً في كسب ثقة هذا الشعب، وكانت خلاصة هذا كله هي العنف المفرط والقسوة الوحشية في التعامل مع الموقف على نحو لم يصب الثوار فقط وإنما امتد إلى غيرهم من المدنيين الذين لم يشاركوا فعلياً في الاحتجاجات.

 ولكن العنف لا يولد إلا العنف، ولأن وتيرة عنف النظام الحاكم تجاه الثوار قد ارتفعت، ولأن ضحايا هذا العنف قد تزايدوا على نحو لافت، ولأن التدخل العسكري الخارجي المباشر كان صعباً -بل مستحيلاً- لأنه أولاً غير مرغوب فيه عربياً على ضوء التجربة الليبية، ولأن القادرين على القيام به ثانياً كانت لهم أسبابهم الداخلية القاهرة التي تحول دونهم وهذا التدخل، لهذه الأسباب كلها لم يجد فريق من الثوار وسيلة للاستمرار في ثورتهم سوى مواجهة العنف بالعنف، وأخذت قدرتهم على تصعيد هذا العنف تتعاظم خاصة بعد تزايد عمليات الانشقاق من الجيش السوري احتجاجاً على ممارسات النظام تجاه الشعب والثورة، وانضمام الغالبية العظمى من المنشقين للثوار، إلى أن وصل الأمر إلى اختراقهم العصب الحساس للنظام، وتمكنهم من القيام بذلك التفجير الذي يرمز إلى انهياره، والذي طال نفراً من نخبة النخبة العسكرية والسياسية في هذا النظام، وهو ما يعني إما أن لهم مقدرة فائقة على اختراق هذه القلاع الحصينة من قلاع النظام، أو أن لهم أنصارهم داخل مؤسسة الرئاسة الذين تمكنوا من تنفيذ هذه العملية. وحتى إذا كانت هناك أصابع أجنبية وراء هذا الانفجار فإن النتيجة واحدة، وهي أن النظام السوري فقد سيطرته على جهازه العصبي.

كثيراً ما توجد مشابهات بين تطورات الأوضاع في البلدان التي شهدت مد ما يسمى “الربيع العربي”، وإحدى هذه المشابهات الواضحة أن ما حدث في سوريا بموجب هذا الانفجار يشبه ما حدث في اليمن في واقعة تفجير المسجد الرئاسي في صنعاء أثناء وجود الرئيس اليمني السابق فيه مع نخبته الضيقة، ويبدو الدرس شديد الوضوح، فعندما يوصد نظام حاكم كل أبواب التغيير السلمي لا يبقى أمام معارضيه سوى اللجوء إلى العنف وصولاً إلى هذه المستويات المختلفة نوعياً عن أعمال العنف السياسي العادية، وربما كان الفارق بين الواقعتين أن الرئيس السوري لم يكن موجوداً في الاجتماع الذي أودى بحياة نفر من كبار معاونيه، غير أن المهم أن تفجير المسجد الرئاسي في الحالة اليمنية كان نقطة فاصلة في مسار الثورة، لاضطرار الرئيس اليمني السابق إلى المغادرة إلى المملكة العربية السعودية شهوراً لتلقي العلاج كانت -أي هذه الشهور- كافية للبدء في التنفيذ الفعلي للمبادرة الخليجية التي تقضي -ضمن أشياء أخرى- بإبعاده عن الرئاسة. صحيح أنه ماطل طويلاً بعد عودته من السعودية إلى اليمن، لكن تفجير المسجد الرئاسي كان بداية النهاية لنظامه، ومن الواضح أن التفجير الأخير في سوريا سيكون له الأثر نفسه.

يقترب النظام السوري إذن من نهايته التي تنبأ بها كثيرون، على الأقل من باب المقارنة مع حالات ما يسمى بـ”الربيع العربي” الأخرى، وبقدر ما يمثل هذا التطور المرتقب مصدر سعادة لكل من رأى في الثورة السورية محاولة تنطوي على إصرار مطلق على استعادة حقوق مهضومة من أربعين سنة على الأقل بقدر ما يقلق هذا التطور -بل ويخيف- كافة الحريصين على سوريا باعتبارها -بغض النظر عن نظام حكمها- حجر أساس في النظام العربي، إذ يبدو أن كافة النظم الشمولية في الوطن العربي التي سقط منها أربعة حتى الآن لم تنجح إلا في تعويق تكوين معارضة منظمة يكون بمقدورها أن تخوض صراعاً سياسياً وفق قواعد الفكر والممارسة الديمقراطية، كما أن انغلاق تلك النظم وعنفها في مواجهة معارضيها يؤدي -كما سبقت الإشارة- إلى عنف مضاد، لكن المشكلة الراهنة في سوريا أن قوى المعارضة السياسية منقسمة على نحو بيّن قد يصل إلى حد التشرذم، وما المؤتمر الذي حضره معظم هذه القوى في القاهرة برعاية جامعة الدول العربية ببعيد، ويعني هذا أن التوصل إلى توافق وطني بعد انتصار الثورة سيكون من أشق المهام. من ناحية أخرى فإن المعارضة العسكرية كما شهدنا جميعاً قد تطورت على نحو لافت، غير أن كافة التقارير تشير إلى افتقادها لقيادة موحدة، وهذا أخطر، خاصة إذا ظل السلاح بعد النصر في أيدي قوى متناحرة.

ويعني ما سبق للأسف -سواء على ضوء المعطيات السورية أو العربية المقارنة- أن ثمة خطراً حقيقياً على مستقبل سوريا بعد انتصار الثورة، وخاصة أن ثمة استحقاقات سوف تواجه الممسكين بزمام الأمور في سوريا الجديدة. ومن هذه الاستحقاقات احتمال حدوث عمليات انتقام طائفي (سنة وعلويون)، وبروز مطالب قومية أكيدة (حالة أكراد سوريا). كل هذا في ظل غياب قيادة قادرة، وللأسف لا يبدو حتى الآن أن ثمة نجاحاً في الجهود الرامية إلى تفادي هذا السيناريو الكارثي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى