العودة إلى السياسة
حسام عيتاني
حملت الصعوبة الشديدة التي يواجهها «الائتلاف الوطني» السوري في محاولته توسيع صفوفه، كل تشوهات السياسة السورية منذ ما قبل استيلاء حزب البعث على السلطة في دمشق.
دفعت مناقشات المؤتمر المنعقد في إسطنبول والتي انقلب كثير منها إلى مهاترات وراء الأبواب الموصدة ومماحكات مع السفراء الأجانب، بعض المعارضين إلى الإدلاء بتصريحات حذروا فيها من «كشف المستور» الذي يهدد بالقضاء على الثورة السورية بسبب تعنت أطراف والتزامها بجداول أعمال دول بعينها.
المفارقة أن «المستور» الأكبر، معلوم للقاصي والداني، فيما لا تزيد أهمية «المستور» الذي أغضب المعارض ميشال كيلو في تصريحه التلفزيوني، عن صغائر بعض المعارضين وأنانياتهم وحساباتهم الشخصية. «المستور – المعلوم» هو أن المعارضة تعيد اليوم إنتاج ذات الصورة التي ميزت السياسة السورية منذ عشرينات القرن الماضي: سيادة النزعات الجهوية والعصبيات الأهلية والطائفية والمصالح الطبقية والاجتماعية المختلفة. ومن المسلمات أن تكون «الثقافة» البعثية المهيمنة على الفضاء العام قد انتقلت إلى المعارضة وفرضت لغتها وأساليبها على المعارضين.
وذهب المعارض كمال اللبواني في حديث تلفزيوني، إلى تشبيه خصومه برجال الأعمال الذين يعتقدون أنهم يستثمرون في الثورة السورية ويريدون عبر «البزنس» أن يحصدوا غلة استثماراتهم. التشبيه الذي أراد اللبواني به تبخيس أفعال خصومه ينطوي على دقة بالغة. فمن أولويات العمل السياسي أن يأتي كلٌ إليها من خلفية معينة وينشط مستعيناً بما في جعبته من أدوات معرفية وسلوك تكوّن خلال تجاربه السابقة. أقل ما يقال إن التاجر لن يتبنى مقاربة المثقف وإن هذا لن يفلح في التغطية على افتقاره إلى التأثير والفعل الميدانيين.
ومفهوم حجم وعمق الاعتراض اللذان عبر عنهما ناشطون سوريون على المنحى الذي اتخذته أعمال مؤتمر إسطنبول والذي بلغ حد اتهام المشاركين بالتآمر على الثورة وبممالأة النظام والعمل لحسابه. فالمهمة الأولى للمؤتمر كانت إعادة ترتيب وضع المعارضة للتعامل مع مؤتمر جنيف (قبل أن يعلن «الائتلاف» رفضه المشاركة فيه)، في وقت تشن فيه قوات جيش النظام وأنصاره في «حزب الله» هجوماً واسعاً على أكثر من محور، من الغوطة الشرقية وصولاً إلى القصير وبعض أنحاء ريف حلب.
بيد أن الاحتجاج على المستوى المتدني لنقاشات مؤتمر إسطنبول ينبغي ألا يحجب الحقيقة القائلة إن على السوريين الاعتياد على قدر عال من التباينات والصراعات السياسية بين من يرون لأنفسهم الحق في تمثيل حساسيات سورية معينة. وإن الخلافات بين السياسيين السوريين هي الحال «الطبيعية». استعادة التاريخ السوري الحديث، على الأقل منذ انقلاب حسني الزعيم في 1949 بعد أقل من ثلاثة أعوام على جلاء المستعمرين الفرنسيين والفترة الممتدة حتى انقلاب «البعث» في 1963، جديرتان بالتأمل في هذه المناسبة.
وبعيداً من طوباوية ورومانسية الفكرة القائلة بضرورة وحدة المعارضة وجعلها الهدف الأسمى في سبيل إسقاط الديكتاتور الدموي ونظامه المافيوي، يتعين النظر إلى المعارضة كما هي في الواقع، بكل ألوانها وثغراتها ونواقصها، وانتهازييها وشرفائها وتأثرها بضغوط الجهات الخارجية. ولعل أحد أهم إنجازات الثورة هو في استعادة الصلة بالعمل السياسي بصفته ترجمة للمصالح ولموازين القوى المادية، بغض النظر عن الشعارات والعواطف والشعبوية.
ثم، من قال إن السياسة مدرسة للأخلاق؟