مراجعات كتب

العودة إلى الوراء هاجس باتريك موديانو/ كاتيا الطويل

 

 

«الأُفق» و«عشب الليالي» روايتان بالعربيّة لباتريك موديانو الكاتب الفرنسي الفائز بجازة النوبل في الأدب للعام 2014 (منشورات ضفاف، ترجمة توفيق سخان، 2014). روايتان يتجلّى فيهما موديانو وارثًا شرعيًّا لمارسيل بروست (1871-1922) الكاتب الفرنسي الوجوديّ، المتميّز بعلاقته مع الماضي في مؤلّفِه الغنيّ عن التعريف «البحث عن الزمن الضائع». وقد شكّل الماضي هاجسًا لدى موديانو هو الآخر، فراح يغرف من ذاكرته ومن مذكّرته السوداء العتيقة وجوهًا مرَّت به، قصصًا بقيت غامضة على مرّ السنين، أسماء لم يعد يذكر قصصها ولا الفصول التي جمعته بها. فيعود الراوي الستّينيّ ليقف على الأرصفة نفسها وفي الغرف نفسها، يعود عشرين وثلاثين عامًا إلى الوراء ويتفرّج على حياته ويحاول ربط خيوطها بعضها ببعضٍ. عودات كثيرة إلى الوراء، حنين وضياع ومحاولات لنسج ما دمّره الزمن وتركَه بلا أثر: «في الخارج، لم أفلح في مقاومة الرغبة في النظر إليهم، وراء الزجاج. واليوم، وأنا أكتب هذه السطور، يبدو لي أنني لا أزال أنظر إليهم، وأنا واقف على الرصيف، كما لو أنني لم أبرح مكاني». (عشب الليالي، ص 58)

البحث عن الهويّة

يحوك باتريك موديانو رواياته على أنّها إعادة رسمٍ لحياته وخطواته، مرآةً للماضي الذي يعجز عن الإمساك به، رحلة بحثٍ أبديّ عن هويّته التي انسلّت منه مع مرور الأيّام. وفي محاولة منه لاستعادة شذرات الماضي الذي فرّ منه، يعود في سرده إلى ما عاشه ثمّ أضاعه في محاولة منه لفهمه. يصف موديانو علاقته بالماضي في جملة من رواية «عشب الليالي» بشيء يشبه التبرير أو التسويغ فيقول: «غريب حقاً كيف أن بعض تفاصيل حياتك لا تتراءى واضحة للحين، لكنها لا تلبث أن تتكشف لك بعد مرور عشرين سنة، كما حين تشاهد صورة قديمة مألوفة بواسطة عدسة مكبّرة ويقفز وجه أو شيء ما لم تنتبه لوجوده حتى ذلك الحين،…» (ص 93)

ويجد قارئ موديانو نفسه أمام سرد ضبابيّ لذكريات ومشاهد من حياة الراوي، سرد للوجوه والأمكنة والفصول والأيّام التي يكتفي الراوي هو الآخر بالتفرّج عليها ومراقبتها ومحاولة تحليلها أو حتّى فكّ رموزها بغية اكتشاف نفسه وهويّته: «إنّه اليوم، وبعد مرور العشرات والعشرات من السنين، حيث أحاول تفكيك رموز آلة مورس التي كان يلقي بها إليّ ذلك المراسل الغريب من أعماق الماضي». (عشب الليالي، 90) والمراسل الغريب إنّما هو موديانو الشاب الذي رأى وعاش واختبر، ثمّ ترك البحث والتدقيق والتحليل لموديانو الكاتب. وقد ألّف موديانو نحو ثلاثين رواية تدور في معظمها في جوٍّ من العودات إلى الوراء والبحث في قصص الوجوه والأسماء التي عرفها الكاتب في حياته. فموديانو الكاتب المختفي اختفاءً شبه تامٍ عن الإعلام الأدبي، كرّس مجمل أعماله للماضي وقصصه ومتاهاته. ولم يتوانَ النقّاد عن إظهار تعجّبهم لدى إعلان فوز موديانو بنوبل الأدب، هم الذين اعتبروه معروفًا في فرنسا وحدها، بينما لم يستطع دخول إرث الأدب العالمي إلا قليلاً، وهو أمر دقيق نظرًا إلى أنّ مؤلّفات موديانو بمعظمها قد تُرجِمَت من بعد فوز صاحبها بالنوبل في الأدب. حتّى النقّاد الفرنسيّون يظهرون استغرابهم، بينما الكاتب يعترف أنّه لم يصدّق خبر فوزه بالجائزة حتّى يوم وصوله إلى ستوكهولم عاصمة السويد وتسلّمه الجائزة في العاشر من كانون الأوّل (ديسمبر).

والكاتب المولود لأب إيطاليٍّ يهوديٍّ عام 1945، عُرِف بروايته الأولى «ميدان النجمة» (La Place de l’Etoile) التي نشرها العام 1968 وهو بعد في الثالثة والعشرين من عمره، والتي تُعتبر من الروايات التي أرّخت الهولوكوست ووصفت الواقع الذي كان قائمًا بين النازيّين واليهود.

فجوة في مدار الزمن

يقول موديانو على لسان إحدى شخصيّاته «يجب عدم النبش في الماضي كثيرًا» («عشب الليالي»، 99)، بينما النبش في الماضي هو كلّ ما يقوم به في نسيجه الروائي، وكأنّ لديه ضعفًا أمام الأشياء المندثرة. ففي الروايتين هاتين، يظهر الراوي شخصًا ستّينيًّا يعود إلى ماضيه، إلى سنوات شبابه، إلى الأماكن الباريسيّة التي ألِفها، ليبحث عن الوجوه التي عرفها. والوجوه في هاتين الروايتين يختصرها وجهان أنثويّان غيّبهما الزمن. ففي «الأفق» المرأة الضائعة هي حبيبة الراوي مارغريت لو كوز. ويدور السرد بمجمله حولها، حول لقائه الأوّل بها، حول تبلور علاقتهما وتطوّرها لحين اختفائها. أمّا في «عشب الليالي»، فالمرأة التي يبحث عنها السرد هي داني أو دومينيك روجيه أو ربّما ميراي سامبيري، لكون هويّة هذه الحبيبة ملتبسة هي التي تملك سجلاً مشبوهًا لدى السلطات.

ومَن يقرأ روايتَي باتريك موديانو، يلاحظ الشبه الكبير بينهما والتقارب الواضح لدرجةٍ يتخيّلهما روايتين في سلسلة واحدة ذات موضوع موحَّد. ففي الروايتين استرجاع وبحث ومحاولة إيجاد خيط يوصل إلى الحبيبة أو إلى الهويّة الأولى للراوي. وصورة المرأة التي يسترجعها الراوي في الروايتين كلتيهما غامضة: هي امرأة تملك ماضيًا حافلاً بالأخطار والمآسي والمشاكل وتحاول قدر المستطاع الهرب منه. هي حبيبة لا تكشف عن ذاتها ولا تسهب في الحديث عن تاريخها وأماكنها وتختفي على حين غرّة.

وقد يُعزى هذا الغموض إلى شخصيّة الكاتب الثي تثير اهتمامه الأحاجي والقصص البوليسيّة فيقول في أحد كتبه: «كلّما غرقَتْ الأشياء في العتمة والغموض ازداد انجذابي إليها، لدرجة أنّني في بعض الأحيان أبحث عن الغموض في أشياء لا يكتنفها أيّ أثر له».

والراوي، المتكلّم في هاتين الروايتين هو شخصيّة هادئة جامدة تراقب ولا تتدخّل ولا تغيّر في مجرى الأمور. وكأنّ الراوي هو قارئ آخر، خامل، هادئ، لا يفعل بل يتلقّى تبعات أعمال الفتاتين. فالمرأة هي عالَم الراوي ومحرّكه، هي البطل الغامض المتحكّم بزمام الأمور: «من دون أن أعلم الكثير عنها، كنتُ على يقين بأنّنا نشترك في الكثير من الأمور وبأننا ننتمي إلى العالم ذاته. لكنني كنت سأجد حرجاً في تحديد أي عالم هو». (عشب الليالي، 37).

وليست السنوات وحدها هي المثقِلة على الراوي، ليست المرأة وحدها هي الهاجس، حتّى المدينة مسيطرة بحضورها وشوارعها وأسماء فنادقها. الأماكن الباريسيّة تسيّر الراوي، تُخضعه، تسلبه هويّته وذكرياته وماضيه على رغم محاولاته في استعادة سنيّ شبابه. المدينة، الأنثى الثالثة، متاهة جديدة، ماضٍ ثقيل يخنق الراوي ويشلّ ذاكرته ويجعله يشكّ في نفسه. ويعالج الراوي وطأة الأمكنة والوجوه والزمن بالحنين، بالشاعريّة، بالتوقّف عند التفاصيل الصغيرة التي لا نتنبّه إليها والتي تحوّل نصًّا ما إلى قطعة أدبيّة إنسانيّة متوهّجة: «كان من السذاجة حقًّا أن نغادر قبل قليل الصالة من دون أن نطفئ الضوء… الآن بعد مرور كل هذه السنوات… ينتابني شعور غريب حينما أفكّر في كلّ الأضواء التي نسينا إطفاءها في أماكن لم نرجع إليها أبدًا… لم يكن الخطأ خطأنا». (عشب الليالي، 54).

حديث الذاكرة

يُعتبر موديانو من مؤسّسي فنّ الذاكرة أو التذكّر هو الذي احترف العودات إلى الوراء والاسترجاعات، وتترك روايتاه «أُفق» و»عشب الليالي» شعورًا محايدًا هادئًا، فكأنّك قرأتَ ولم تقرأ، كالجائع الذي يأكل وهو بعد على جوعه. لكنّ المؤسف في هاتين الروايتين هو أنّ الترجمة إلى العربيّة لم تكن على المستوى المتوقّع، فالأخطاء اللغويّة والتركيبيّة التي في النصّ كثيرة وغير مبرّرة وما كان يجب أن ترد، كالمزج بين المثنّى والجمع في الجملة نفسها أو رفع المنصوب ونصب المرفوع وأمور أخرى تُعدُّ من بسائط القواعد العربيّة نحو: «كانت قدماه تبدوان عارية» (أُفق، 12) والصح هو عاريتين». وجد الإثنان نفسيهما مضغوطان إلى الجدار (أُفق، 15) والصح : وجد الإثنان نفسيهما مضغوطين. «لم يبقَ هناك سوى أسبوعان» (أُفق، 18) والصح هو أسبوعين. «كلّما التقى بوسمان هذان الشخصان» (أُفق 29) والصح هو هذين الشخصين. «ركّز عيناه الزرقاوان الصغيرتان» (أفُق، 47) والصح هو عينيه الزرقاوين الصغيرتين. «لم تكن الحقيبتان ثقيلتان» (عشب الليالي، 12) والصح هو ثقيلتين، «اللقاءات تجمعُ شخصان» (عشب الليالي، 25) والصح شخصين. «حتى لا يختفون» (عشب الليالي، 89) والصح هو حتّى لا يختفوا. «حوالى دقيقتان بعد ذلك» (عشب الليالي، 126) والصح هو نحو دقيقتين. وهلم جرا…

من المهم أن يترجم موديانو إلى العربية فتتاح الفرصة للقراء العرب أن يقرأوه وكانت الصحافية اللبنانية رنا حايك أول من ترجم له رواية هي «مجهولات» وصدرت في القاهرة عن دار ميريت عام 2006 قبل فوزه بنوبل. قراءة باتريك موديانو قراءة لذيذة دافئة، تقرأه كمن يقرأ كلمات مهموسة بين صديقين يعرف بعضهما بعضاً منذ سنوات ويكملان حديثًا لمّا ينتهِ. هي قراءة في الزمن، في السنوات، في العمر الذي يجري من دون أن نشعر به، وكأنّ الأيّام تغدر بنا وتنسلّ من بين أيدينا على غفلة منّا لنجد أنفسنا ذات صباح واقفين في حديقة بيتنا الخلفيّة نتأمّل الذكريات ونحاول لملمتها ونحزن لعجزنا.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى