العودة المستحيلة
عباس بيضون
للوهلة الأولى يبدو أن منقلب الأمور لا يناسب بداياتها، والمأمول منها. ليس من الحظ أن تنتهي أكبر انتفاضات الربيع العربي إلى خيار إجباري بين لواء حكم آخر أيام مبارك ومرشح للإخوان المسلمين. لن تكون نتائج الانتفاضة السورية بالحساب نفسه أفضل حظاً. الاخوان المسلمون والسلفيون يرثون الأنظمة البائدة في تونس وليبيا واليمن وربما في سوريا. يتساءل كثيرون إذا لم يكن ذلك تدهوراً إلى الأسوأ. يتساءلون إذا لم يكن الربيع العربي عبثاً في عبث. إذا لم يكن من المساخر أن يغيب الذين قاموا بالانتفاضات وكسبوها بدمائهم وشهدائهم وأن يبقى في الساحة الأخوان الذين تأخروا عن الانتفاضات وربما ساوموا عليها. أن يقفزوا هؤلاء من آخر الصفوف ليتسلموا الغنيمة وليفوزوا في الشوط الأخير. يبدو هذا بالنسبة لكثيرين تقهقراً، فإن علم الثورات وهو أيضا علم الانقلابات العسكرية المزعومة ثورات عندنا يؤثر الانقلاب العسكري القوموي الاشتراكوي على حكم الإخوان الرجعي. ذلك علم أرساه الماركسيون العرب فللانقلاب العسكري أرجحية طبقية إذ هو حكم الطبقة الوسطى فيما حكم الإخوان للطبقات العليا. والانقلاب يساري فيما حكم الاخوان مغرق في يمينيته، والانقلاب حليف للمعارضات العربية فيما حكم الاخوان ربيب أعتى الأنظمة وأكثرها رجعية والانقلابات عروبوية وطنية فيما حكم الاخوان لا يقيم للعروبة ولا للوطنية وزناً. هنا الحكم يرقى إلى السائد ويكاد يكون ايديولوجيا مهيمنة. نحن إذن في حرج حيال ما يجري منذ أكثر من عام في بلادنا، بل نحن قد نجد فيه واحدة من مساخرنا التقليدية. سنقول إننا ما نزال نقيم على الحال نفسه، نسير من انحدار إلى انحدار ولا رجاء فينا. نحن العرب بلا مستقبل وبلا حاضر ولا علاج لتخلفنا ولا سبيل إلى يقظتنا. هكذا يفيض يأسنا وينكسف مرة واحدة أملنا البازغ بفجر جديد، بولادة أخرى، ليست لفظة ولادة هنا من دواعي البلاغة، فما ننتظره حقاً ولادة. حدث ليس وراءه لا من قبل ولا بعد حدث. حدث ليس قبله إرهاصات ولا مقدمات وإنما هو إبن ذاته وثمرة نفسه فليس قبله سوى التراكم والتكديس وسوى البلادة المستحكمة والسبات المهيمن. ما ننتظره ليس سوى انفجار في ذاتنا وانسلاخ عن جلدنا وعن أنفسنا. حتى إذا لاح لنا أن الانفجار لم ينقلنا من مواضعنا وأن خياراتنا لم تزل هي نفسها قلنا إنه برق راح واختفى فما زالت الأرض هي الأرض والواقع هو الواقع. بل تراءى لنا أننا ما نزال في تخبطنا وأن الانفجار قد لا يكون سوى قفزة عريضة إلى الوراء. قد نكون أسرعنا في القهقرى. قد لا يكون ما حدث سوى وهم صيف.
لسنا بعيدين عن الاصغاء لكلام كهذا، فما من ثقة لنا في أنفسنا ولسنا ننتظر منها سوى الأسوأ. لقد جعلتنا الظروف كارهين أنفسنا ولم تفعل الديكتاتوريات (الثورية) سوى مفاقمة يأسنا من ذواتنا ويأسنا من الآخر ويأسنا من كل شيء. ما أن يلوح لنا أن ليس لنا سوى هذا الخيار حتى نغلي بهذا اليأس وحتى نستيقن أن ليس أمامنا شيء وأن الأفق مغلق مسدود وأن ما ينتظرنا هو ما انتظرناه دهوراً وما زال يتكرر ويستعاد. بهرنا ما جرى، لكنه انبهار زائل فإن لنا من العادة والاختيار ما يجعلنا نثوب إلى أنفسنا فوراً وما يجعلنا نطرد عنا شبح التفاؤل ونستسلم مجدداً للبلادة والخمول. هذا ما صرنا إليه أو يبدو أننا في الطريق إليه. انتخابات الرئاسة في مصر ستنتهي حكماً بأحد اثنين إما عودة رئيس الوزراء السابق في عهد مبارك او صعود الإخواني. هذه النتيجة منتظرة الا أننا ننتظر تحققها لنغرق في تشاؤمنا ولنؤاخذ أنفسنا على ما سلف من حبور وانخطاف. لست متفائلاً أو متشائماً فليس المقام مقام تفاؤل ولا تشاؤم، لكني أتساءل إذا كان الظرف يتيح لأحمد شفيق أن يعود مبارك جديداً، وإذا كان الظرف يتيح لمرسي أن يبني دولة وهابية. أتساءل إذا كان شفيق حال ترؤسه ونجاحه سيفعل ما كان يفعله مبارك. إذا كان سيدعو فلول الحزب الوطني وسيوزع عليهم المصانع والشركات الحكومية هبات او كالهبات. إذا كان سيقوّي المخابرات أو يجعلها أقوى مما كانت ويسلطها على الناس وسيجمع المعارضين في السجون. إذا كان سيزوّر الانتخابات ويؤمن الفوز لحزب السلطة. عندما نسمع أحمد شفيق نراه يعد بأن لا عودة إلى الوراء، أي ما وراء الثورة او الانتفاضة. لن نصدق أحمد شفيق لكن نقدّر ما يجعله يمالئ. لا ننسى انها انتخابات حرة، أول انتخابات حرة في تاريخ مصر الحديث. أحمد شفيق يمالئ الجمهور والجمهور في الشارع، ولن تكون سهلة إعادته إلى المستودع. أحمد شفيق الآن صار في المركز الثاني بإرادة الشعب. هذا ما حققته الانتفاضة، لا عودة إلى الوراء، إلى انتخابات معلبة، إلى الحزب الواحد إلى حكم المخابرات، إلى ترتيب الأمور في كواليس السلطة وبعيداً عن أي رقابة شعبية. انه نظام كامل منذ 1952 حتى 2011 هو الذي سقط ولن يعود بمجرد انتخاب أحمد شفيق. انتخاب مرسي سيكون مشكلاً لا للجمهور وحده، ولكن للاخوان المسلمين أيضاً. لقد غدا جعفر النميري في يوم أمير المؤمنين وجاء عمر البشير إلى السلطة بقوة الإسلاميين ولم يفعل الإثنان أكثر من نصب الإسلام كإيديولوجيا لنظام غير قادر على الخروج من أزماته. ثم ان هذه الانتخابات لن تكون الأخيرة، لن تكون عتبة لاستبداد جديد. لم تكن الانتفاضة إسلامية ولم تقم في سبيل الاسلام، قامت من أجل طرد مافيا الحكم ومن أجل انتخاب حر وتعدد حزبي. من قاموا بها ما يزالون في الشارع مستعدين للدفاع عنها وتجديدها.
كانت الثورة الإيرانية إسلامية وحملت إلى السلطة مرجعاً دينياً وصفاً من رجال الدين. ليست هذه حال الانتفاضة المصرية التي واجهت ديكتاتورية عمرها 60 عاماً ولا تطمح إلى حكم ديني. تراجعت شعبية الاخوان المسلمين امام اختبار السلطة. كانت خطوات قصيرة كافية لهذا التراجع. الجمهور في عز تعبئته يتعلم. لم يستفد الضباط من العنف الذي باشروه بل اضطروا إلى الاعتذار عنه. الحرية هي مبدأ الانتفاضة ولن ينجح أحد في إرساء ديكتاتورية جديدة. لن يعود عهد مبارك ولن يقوم حكم إسلامي. سواء نجح مرسي أو شفيق، لا عودة إلى الاستبداد.
السفير