العولمة تضخّم الثروة وتوسع التفاوت/ نيكول غنيسوتو
تواترت، في الأعوام العشرين الأخيرة، الانعطافات السياسية والاقتصادية الحادة. وكان بعضهم توقع أن يؤدي التجديد التكنولوجي، على شاكلة الانترنت، كل 5 سنوات، إلى انقلاب الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، غير أن الانقلابات والثورات السياسية هي التي طبعت بطابعها مجرى الحوادث، ودعت التحليل الاستراتيجي إلى تقديم مفهوم الانعطاف أو القطيعة والإقرار له بالصدارة. وليس النظر في عوامل النظام العالمي المستقرة هو مفتاح التحليل بل عناصر الاضطراب غير المحسوبة. وأمسى استباق أطوار النظام العالمي أمراً عسيراً أو ممتنعاً. وإذا تناولنا المنعطفات الأخيرة، مثل 1991، سقوط الاتحاد السوفياتي، و2001، الهجمات على مركز التجارة العالمي، و2003، حرب العراق، و2008، حرب جورجيا، 2011، «الربيع العربي»، 2013-2014، سورية وأوكرانيا، 2016، «البريكزيت» وترامب- اضطررنا الى الاقرار بأن كل سنة من السنوات هذه ساهمت في تغير العالم.
ويتصدر سقوط الاتحاد السوفياتي هذه المنعطفات. وليس السبب في الصدارة تلاشي الشيوعية وتبددها فحسب. ففي ثمانينات القرن العشرين، وفي وقت واحد تقريباً، قرر النظامان الشيوعيان في روسيا السوفياتية وفي الصين، تبني اقتصاد السوق الليبرالي. وقرارهما المتزامن هو أصل العولمة. ولم يرَ الأوروبيون إلا ثورة الاتحاد السوفياتي، وغفلوا عن ثورة الصين. فتأخر الاتحاد الأوروبي عن التكيف مع العولمة. وتكيف نسبياً مع سقوط الاتحاد السوفياتي، وذلك من طريق توسيعه، واستقباله بلدان شرق أوروبا.
وأعلنت هجمات 2001 – 2003، والحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في الأثناء، على الملأ مكامن هشاشة القوة العالمية الأولى، على نحو ما كانت حرب العراق قرينة على إفراطها الاستراتيجي في استخدام القوة. وهذه الثورة المزدوجة غيّرت وجه العالم. وتصدع الشرق الأوسط هو ثمرة المآسي التي حلت بسورية والعراق وأفغانستان. وهي بدورها وليدة الحملة الأميركية على العراق. وأصاب أوروبا نصيب من تداعيات هذه الحوادث. وهي تدرك اليوم أن الجناح الأميركي لا يتولى حمايتها حماية شاملة.
ثم اندلعت أزمة 2008 الاقتصادية الناجمة عن الرهونات العالية المخاطر، واتفقت زمناً مع حرب روسيا على جورجيا. فظهر جلياً أن العولمة ليست صنو ازدهار مسترسل، وأنها حبلى كذلك بأزمات اقتصادية ومالية. وينبغي الإقرار، من ناحية أخرى، بأن توسع الديموقراطية في أوروبا ونضوجها ليسا من ثمرات العولمة الطبيعية. فنهاية الحرب الباردة ليست نهاية الحروب الحقيقية، وقد تفضي إلى نشوب أزمات سياسية واستراتيجية خطرة مع روسيا. وعلى هذا، تبدد وهمان أوروبيان كبيران في وقت واحد: حسبان أن الازدهار والديموقراطية يترتبان تلقائياً على العولمة وسقوط الشيوعية. ونخوض اليوم نتائج أزمتي الازدهار والأمن الكبيرتين، وأزمة الازدهار، بعد عقود من النمو المتصل، هي حضن الحركات الشعبوية في أنحاء أوروبا، وفي المملكة المتحدة (بريطانيا) خصوصاً. وترافق أزمة الأمن عودة إعمال القوة في حزام البلدان حول أوروبا، وفي أوروبا ذاتها، من طريق الإرهاب.
ولا جدال في أن العولمة كانت نبأ ساراً لثلاثة أرباع الإنسانية. فمن بابها دخل المزارع الصيني أو المزارع الهندي إلى السوق الاقتصادية، والمدرسة، وتربية الأطفال، ودخلت النساء إلى هذه المرافق. ولكنها (العولمة) كانت عاملاً أخل بأحوال البلدان التي قوضت العولمة صناعتها، وأولها البلدان الأوروبية. ونميل إلى حمل العولمة على سلبياتها. فليس سامرياً طيبَ القلب من شاء، يلج سوق العمل في السنة الواحدة 15 مليون هندي. ولكن هذا لا يفرح قلب العامل الفرنسي، بالضرورة. فالعولمة هي من ناحية خطوة تقلص الفقر، وهي من ناحية أخرى عامل يخل بتوازن أوروبا.
ويقتضي الواقع القول إن العولمة ليست شاملة جامعة، ولا هي عالمية تتناول بلدان الكوكب كلها. وهي لا تجلب الثراء، في البلدان الصناعية، لكل فئات أو شرائح السكان على قدم المساواة. والمؤشرات، في البلدان الأفريقية، تميل كلها إلى الدلالة على التقهقر والتأزم. ولا أرى قرائن على دخول منطقة الشرق الأوسط الكبيرة العولمة، على رغم تلويح بعض بلدانها الصغيرة بسراب خادع. ومفارقة العولمة تفضي إلى إخلال عميق بالتوازنات، فهي تعظم الثروة وتفاوت العوائد معاً وفي وقت واحد. فتنمو ثروة فرنسا بينما يحس الفرنسيون بالافتقار. والشعور بالافتقار هو إحدى علل الصورة المنفرة التي تتصور فيها العولمة في بلادنا. ويقدر تقرير أعدته «أوكسفام» قبل عامين أن واحداً في المئة من سكان العالم يملكون مقدار ما يملكه الـ99 في المئة الباقون. وهذا حقل بارود لا يؤمن انفجاره.
وأخطأ الظن من حسِب أن قوة السوق قمينة بتعويض هذا التفاوت وردم هوته. فهذا ما حسبه رونالد ريغن ومارغريت تاتشر وخلفائهما من غلاة الليبراليين في ثمانينات القرن الماضي. فافترضوا الكمال في السوق وفي نظام عمله. ولكن الحق هو ان الهوة العميقة بين مستويي العوائد والمداخيل لا تردمها إلا السياسات الإرداية التي تخلت عنها أوروبا منذ زمن بعيد. وهذا ما يعيبه مواطنون كثر على الاتحاد الأوروبي. والخطأ الثاني الذي ارتكب هو الظن أن العولمة تقرّب بين الثقافات، وبين أنماط الاستهلاك وطرائق العيش، وأن الانترنت سطَّح الأرض فاستوت واحدة متصلة ومتجانسة. وهذا وهم. فثمة حاجز صفيق يفصل العولمة الاقتصادية التي تجمع العالم عن الدائرة السياسية المقيمة على انقسامها، وتباينها الداخلي، وحدتها.
* رئيسة مجلس إدارة معهد الدراسات العليا في الدفاع الوطني، عن «إسبري» الفرنسية، 6/2017، إعداد منال نحاس.
الحياة