العيش بمحض المصادفة/ عمر قدور
في اليوم الذي تلا مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق، عادت زوجتي إلى البيت وأخبرتني بأن قذيفة وقعت قريبة جداً من السيارة التي تستقلها، ما أدى إلى ارتجاجها وانكسار زجاج النوافذ. لم نتوقف عند هذه الحادثة، بل عدنا إلى متابعة آخر الأخبار المتعلقة بضحايا الكيماوي. في الواقع، لم تكن الحادثة الأولى من نوعها، فقبل أسبوعين منها سقطت قذيفة، أو انفجرت سيارة مفخخة بحسب رواية السلطة، في الشارع ونحن على وشك الوصول إلى المكان نفسه؛ كان وارداً أن نكون بين ما يزيد عن ثلاثين شخصاً من الضحايا. ذلك لم يدفعنا إلى الحيطة والعودة إلى البيت، ولم نفرح أيضاً بأننا لا نزال أحياء، ولم نصب حتى بالدهشة التي انتابتنا مع أول انفجار لقذيفة هاون على مقربة منا.
أيضاً بعد مجزرة الكيماوي بثلاثة أيام، وبينما نحن نسير، رأينا ثلاثة من أعوان النظام يوقفون شاباً في الطريق بمنتهى القسوة؛ رفعوا التيشِرْت الذي يلبسه فوق رأسه ليغطيه تماماً وقيدوا معصميه، ثم وضعوه في الصندوق الخلفي الضيق لسيارتهم وأغلقوا عليه. كنا نعلم أن اعتقاله على هذا النحو لن يكون سوى أقل ما سيتعرض له من قسوة، فقصص التعذيب في المعتقلات تتسرب يومياً من هناك، وعدد الذين ماتوا تحت التعذيب في أثناء الثورة يزداد يومياً من دون وجود حصيلة نهائية مؤكدة سوى أنها تعدت الثلاثة آلاف. تابعنا المشي؛ كانت دموع زوجتي تسيل على خديها من فظاعة المشهد، وكنت أحاول تشتيت انتباهها عما جرى بينما أتخيل نفسي مكان ذلك الشاب قيد الاعتقال والتعذيب.
في البيت لا نتكلم كثيراً عن هذه الحوادث القاسية، نتجاهلها قدر الإمكان؛ ثمة تواطؤ مضمر يدفعنا إلى عدم التحدث في المشاهد المروّعة التي يراها كلٌّ منا. مع معرفة كلّ منا بما يحدث، وتكرار هذه الفظاعات منذ ما يقرب من سنتين ونصف، مع ذلك ثمة رغبة في عدم التحدث عن التفاصيل. في الظاهر، السكوت أحياناً نوع من حماية مشاعر الآخر، الذي يعرف أيضاً. ومن جهة أخرى، الصمت أحياناً نوع من الأمل الدفين بأن ما نعرفه قد يرقى إليه الشك، وأن الشك سيتبدد عندما نتكلم ويؤكد واحدنا للآخر هول ما يعرف.
في الليلة التي قُصفت فيها الغوطة بالغازات السامة، لم تتوقف أصوات القذائف والصواريخ طوال الليل؛ اعتدنا النوم برفقة هذه الأصوات، والكثيرون منا عرف بما حدث صباحاً فقط. سماع أصوات القصف المستمر بالأسلحة التقليدية الذي استمر على الغوطة طوال الأيام التالية كان الأقسى ربما، لأنه كان يعني تصميم النظام على منع إسعاف المصابين، وعلى إنزال أكبر قدر من الموت بالمدنيين. مع هذه الأصوات؛ ثمة إحساس بالقهر يصعب وصفه، ثمة شيء يرتجّ في دواخلنا مع كل قذيفة، ثمة يأس مطلق من الإنسانية لم يعد يتضمن حتى نوعاً من العتب واللوم.
عندما نستذكر العدد الضخم من الضحايا، وقد فاق المئة ألف منذ أشهر ثم توقفت المنظمات الدولية عن إضافة الزيادة إليه، عندما نستذكر ذلك لا نشعر بأننا نجونا من الموت. الأمر لا يتعلق بأن شبح القتل لا يزال مهيمناً ما دام النظام موجوداً، بل لأنه من الأنانية الإحساس بالنجاة ما دام العشرات من المدنيين يموتون يومياً بسبب القصف العشوائي؛ في الواقع ربما كان الواحد منا قد مات في إحدى الغارات ولم ينتبه!
قد نتخيل فظاعات أقسى من الموت، كأن يُقتل أحد أحبتنا المقربين؛ هذا التخيل نوع من التمرين القاسي الضروري بعد أن تمرّنا مراراً على احتمال موتنا. الاستعداد النفسي لتقبل مثل هذا الاحتمال يبدو ضرورياً، وإلا قضينا معظم أوقاتنا في الهلع. في هذه الأثناء نعلم أن أحبتنا يمارسون الرياضة النفسية ذاتها، وأنهم باتوا أكثر استعداداً لتقبل خبر موتنا؛ هذا كان ليدمّر مشاعر الحب المعهودة في أوقات أخرى، لكنه الآن أصبح تعبيراً متبادلاً عن مشاعر عميقة يصعب شرحها أيضاً.
في الواقع تضيق عما قبل حلقةُ الأحباء المقربين، فقبل أيام حاولت أن أتذكر قريباً لي مات مؤخراً بداء السرطان، فشلت وقتها في تذكر الشخص الذي مات، مع أنني أحبه حقاً، وكنت سأحزن عليه لو مات في وقت آخر! تراكمُ أخبار الموت أيضاً يجعل بعضها قديمة وقابلة للنسيان، الباقون لم يعودوا يمتلكون الوقت الكافي للحزن، لأن موتاً إضافياً اليوم سيحمل حزناً جديداً يبدد حزن الأمس. ربما أيضاً يتوارى الحزن مؤقتاً لئلا يستولي على حياتنا، ربما نحزن من دون أن ندري، وفي وقت لا نستطيع توقعه سلفاً. يومَ اغتيل الناشط الشاب غياث مطر، واقتُلعت حنجرته من قبل رجال المخابرات، بكيتُ كثيراً. لم أكن أعرفه بشكل شخصي، لكنني بكيت بغزارة؛ في أثناء ذلك فقط عرفت أنني كنت حزيناً جداً بسبب اغتيال الصديق مشعل التمو الذي سبق اغتيال غياث مطر، لكنني حينها لم أستطع البكاء.
في الأشهر الأولى للثورة كانت مشاعرنا أكثر غلياناً، كان مقتل متظاهرين قلائل كافياً ليدخلنا في الكآبة طوال الوقت، لم نكن نصدّق أن هذا يحدث لنا حقاً، لم نكن نصدّق أن العالم كله بوسعه أن يشيح النظر عن موتنا بهذه الاستهانة. فيما بعد لم نعد نفكّر على هذا النحو؛ قلّ حضور العالم في آمالنا، وتزايد حضور الموت. صارت المسألة تتلخص في قدرة ما تبقى منا على رؤية الحلم؛ أن يبقى أناس ليعيشوا الحرية التي حلمنا بها. العديد من الأصدقاء غادروا وكانوا يستحقون رؤية سقوط الديكتاتورية، موتهم كان قاسياً على نحو خاص لأنهم تمنوا العيش ولو لدقائق قليلة بعد سقوط الديكتاتور؛ البعض منهم مات بالقهر جراء ما رأى من مآسٍ، لم تتحمل أعصابهم رؤية كل ذلك؛ ربما كان هؤلاء أكثر حساسية منا نحن الباقين.
بعد مشاهداتها في الغوطة إثر القصف الكيماوي تتخيل الناشطة السورية رزان زيتونة هذه الهدهدة الموجهة للأطفال قبل النوم: “ابني.. اِغسل أسنانك واذهبْ إلى سريرك فقد تأخر الوقت. ولا تشرب الكثير من الماء قبل النوم! وإذا سمعت هدير الطائرة انزلْ إلى القبو، وإذا شممت رائحة غير طبيعية اصعد إلى السطح، وإذا لم تجد الوقت كي تفعل أي شيء، فاعلمْ أني أحبك كثيراً، لكن ليس باليد حيلة. العالم قذر ومتوحش. ستفهم يوما حين تكبر، إذا أتيح لك أن تكبر!”. محظوظة هي الأسر التي ليس لديها أطفال صغار، فهذا يجنّبها الكثير من أسئلتهم المحرجة، إذ من الصعب أن تشرح لطفل كيف أن رئيساً يظهر في خطاب له ليتوعد الشعب بالمزيد من القتل والإبادة، ومن الصعب دائماً حمايتهم من الخوف أو تركهم يستسلمون له. الأطفال يزيدون إحساسنا بالكارثة؛ مثلاً الطفلة ذات السنوات الست أخبرتنا بعد أن أتت من اللعب مع أطفال الجيران أنها التقت بينهم بثلاثة أولاد فقدوا عائلتهم بأكملها، صارت عيناها أكثر سواداً وعمقاً وهي تخبرنا بذلك، غير أنها توقفت بغتة عن قول المزيد ولا ندري ما الذي دار في خلدها؛ ربما رأفت بحالنا فلم تشأ سرد معاناة أقرانها.. صمتنا فلم نقوَ على سؤالها عن تتمة الحكاية.
خلال سنتين ونصف من سيرة الموت اليومي يُفترض بنا أن نكون قد تغيرنا، لكننا لا نستطيع الجزم بذلك دائماً، وفي أغلب الأحيان نحاول أن نثبت لأنفسنا العكس. نعيش في الحد الأدنى الذي يفرضه القمع علينا، وفي الوقت نفسه نعيش الحد الأعلى من الإحساس بالحرية الذي لم نعشه قبل الثورة. نسخر كثيراً من قسوة الطاغية ومن أساليبه التي لم تعد تجدي في قمع الثورة؛ مثلاً هذه الأفراح الصغيرة لم تكن متاحة من قبل. نسخر من أكاذيب الإعلام الرسمي المكشوفة، لكن ذلك لا يخلو من المرارة عندما نرى إعلاماً عالمياً يساهم في ترويج هذه الروايات. نتابع نشرات الأخبار التي تتحدث عنا، ونستاء عندما يتراجع خبر الموت السوري عن صدارة نشرات الأخبار. لا يخلو الأمر أحياناً من الشعور بالملل؛ أحياناً نسأم من أخبارنا، وننأى بأنفسنا قليلاً عن نشرات الأخبار وعن وسائل الاتصال الاجتماعي التي تنشغل بالأحداث ذاتها.
الأصدقاء خارج البلاد يخشون علينا من تبعات العيش هنا، يبالغون في مخاوفهم عادة، فنبادر إلى طمأنتهم! قد يبدو هذا طريفاً؛ أحياناً يتصلون بنا بلهفة وخوف بعد سماع الأخبار، فنقابل خشيتهم بهدوء أو برود، نقول لهم إن الأمر ليس بذاك السوء الذي يتخيلونه، نعدهم بأننا سنبقى بخير، نتحدث بثقة مفرطة لا نعرف لها سبباً، لكنهم يصدّقوننا ويعتادون بدورهم على تلقي الأخبار الجديدة من دون خشية كبيرة علينا.
لسنا نكابر، ولسنا أقوياء، لنتأقلم مع كل هذا. المسألة على الأرجح أبسط من مزاعم القوة أو من المكابرة، ولا وقت أصلاً لترف من هذا القبيل. ما يحدث أن الحياة تسير بقواها الذاتية، وإن كان ثمة ما يسمى روح التحدي فهي ليست متعمدة، ولا أحد يسعى إلى إثباتها أصلاً. ربما يكون حديثنا عن الحياة نوعاً من المزاعم أيضاً، فهي بالتأكيد ليست الحياة التي يعرفها الآخرون في بقاع أخرى من العالم. ربما نكون في منزلة الشك بين الحياة والموت، شأننا في هذا كتلك الطفلة المصابة بالكيماوي في الغوطة، والتي كانت تتساءل بهستيرية: “أنا عايشة؟”. فيرد عليها الطبيب مطمئناً إياها بأنها لا تزال على قيد الحياة. ربما كنا جميعاً مثلها نحتاج أناساً آخرين، لم يعيشوا ما عشناه، ليقولوا لنا ما إذا كنا حتى الآن أحياءً بالمعنى المعهود للحياة!
المستقبل