العيش في المؤقت/ ياسين الحاج صالح
يوم خرجتُ من سورية في خريف 2013 نشرتُ مقالاً قصيراً عنوانه: في وداع سورية… مؤقتاً. لم أستطع مغادرة بلدي لأول مرة دون أن أقول شيئاً، ودون أن أتعهد بأن تكون هذا المغادرة مؤقتة. وها قد انقضت نحو أربع سنوات ونصف على المؤقت دون أن تلوح لها نهاية.
لكن بينما تسنى لي خلال هذه السنوات أن أستأنفَ بقدر كبير ما كنتُ أقومُ به من عملٍ كتابيّ، لم يُتَح وصلُ ما انقطعَ لمعظم اللاجئين. بخاصة من يقيمون في معسكرات لجوء في الأردن وتركيا وبلدان أوروبيّة، أو يتعرضون لأشكال متنوعة من التمييز، بما في ذلك ما يتصل بالحركة والظهور في مساحات عامة.
وصلُ ما انقطعَ من الحياة، أو استئنافُ الحياة، أو ربما العمل على أن يكون اللجوء فرصة لبداية مختلفة، هو أهم تحدٍ يواجه اللاجئ. مثل «السجين العرفي»، الذي رغم أنه لا يعرف كم سيبقى في السجن ومتى سيخرج منه، فإنه لا يقضي سنواته في السجن منتظراً لحظة خروجه منه، يعملُ اللاجئ بدوره على أن يضع تجربة الاقتلاع واللجوء بين قوسين، وألا يقضي سنوات لجوئه في انتظار العوة إلى البيت والوطن. في السجن نعمل على تحييد الزمن بأنشطة نافعة، وقد نعمل على كسبه إلى صفّنا بأن «نستحبس»، نجعل من السجن بيتاً، إطاراً لتغيُّرنا، لتحررنا من سجون أخرى. هذا حين لا يكون السجن بالغ القسوة، مثل تدمر وصيدنايا والسجون الجديدة في سورية، يمتنع الاستحباس فيه. اللاجئ يفعل مثل السجين ما استطاع، يحاول أن يتحكم بحياته في شروطه الجديدة. ماذا يعني التحكم بالحياة؟ يعني في الحد الأدنى حيازة قاعدة، نقطة استقرار، «غرفة للمرء ينفرد بنفسه فيها» (فرجينيا وولف)، بيتٌ شخصي إن أمكن. أعني أن نقطة الاستقرار ضروريةٌ من أجل التخطيط للحياة، أي أيضاً من أجل التحكم بالزمان وتطويعه، بما يُتيحُ التحوّلَ من وضع المُقتَلَع الناجي بحياته إلى وضع اللاجئ المستقر، القادر على استئناف الحياة أو إعطاء نفسه بداية جديدة. هنا أيضاً حين لا تكون شروط اللجوء بالغة القسوة، يمتنع «الاستلجاء» فيها. أبني مُدرَكَ «الاستلجاء» على وزن «الاستحباس»، وأعني به التمكّن بصورة ما من جعل ديار اللجوء وطناً والملجأ بيتاً.
في إطار الوقت المُتاح1، أميّزُ بين مستويات مختلفة من علاقة اللاجئين بالزمان حسب القدرة على امتلاك مكان شخصي أو عائلي، وأميّزُ بين صورتين للوعي الذاتي للاجئ، مثالية وواقعية.
الذي يسكن في خيمة، أو في هنغار مزدحم مع آخرين، ولا يستطيع تغيير مكان سكنه حتى ولو أراد، سواء لأسباب أمنية أو اقتصادية، هو أقرب اللاجئين إلى العيش في انتظار «عودة» تتأخر وتتأخر. هنا يشكل اللجوء استمراراً لتجربة الاقتلاع، لا يسمح لها بالتقادم. وهنا العيش في المؤقت بكل معنى الكلمة على نحوٍقلّما يَسمحُبالتخطيط. التخطيط يعني قدراً من الإحاطة بالواقع وتقدير تغيراته عبر الزمان، على نحو يتيح التوقع. في ملاجئنا لا نحيطُ بالواقع فلا نستطيع التوقُّع، ولا تَجنُّبَ النوازل، فلا نتحكّم بأي قدرٍ بزمانِ حياتنا، ولا نُخطِّط.
هناك مخيمات لجوء في لبنان والأردن وتركيا، وفي أوروبا، أسوؤها في لبنان الذي تعرضت فيه مخيمات اللاجئين لدهم من قوى الأمن اللبنانية غير مرة، وعومل اللاجئون معاملة مذلة. وبما أن معظم لاجئي لبنان قَدَموا من مناطق يسيطر عليها النظام اليوم، ولا يستطيعون العودة لما في ذلك من خطر على حياتهم، فإن عيشهم في الملجأ غير الكريم أقرب إلى تعليق دائم للحياة.
معظم الملايين الستة من اللاجئين السوريين لا يقيمون في مخيمات خاصة. يُسجَّلُللّاجئين، وبخاصة من بحثوا عن ملاذ في بلدان أبعد عن سورية، أوروبا بالأخص، أنهم اخترعوا شيئاً جديداً في السياسة الدولية: عبور حدود دول متعددة، أي إلغاء الحدود على نحو يشكل سابقة ومثالاً يمكن أن يُحاكَى من قبل أناس آخرين. الواقعُ أن اللجوءَ السوريَ (واندرج ضمنه غير سوريين كثيرين: عراقيين، إيرانيين، أفغاناً وحتى أفارقة) مثالٌ على قوة ولاية اللاجئين agency، أي على أن اللاجئ ليس ضحيةً مسلوبة الإرادة، وعلى أن وضع اللجوء لا يتعارض مع القدرة والاختيار، بل لعله أهمّ مثال معاصر على تغيير المصير وتحويل الأزمة إلى فرصة لتغيير الحياة.يمكن تعريف الإيجنسي في هاذ السياق بأنها مقاومةُ طغيانِ المؤقت، والنضال ضد الحياة المعلّقة. ورغم الاتفاق الأوروبي التركي في آذار 2016 فإن الحدود التي ظهرت مرةً كشيء نافذٍ ومَسَاميّ يمكن أن تبقى كذلك بصورة ما، أو أن العلاقة بين الحدود أي الدول، وبين ولاية الأفراد والمجموعات على أنفسهم، قد تغيرت لغير مصلحة الدول. مؤقتاً.
مؤقتاً فحسب. ذلك أن أضعف الدول وأفقرها أقوى وأوفر موارد من أكثر الأفراد (ليس من بيل غيتس أو رامي مخلوف)، وكما نعلم من المثال السوري، تستطيعُالدولُأن تقتل الناس، بينما لا يستطيع الناس قتلَ الدول. الإبادات التي قامت بها الدول كثيرة، لكننا لا نعرف بعد مثالاً واحد لقتل الدولة.
واقعياً (سأتكلم لاحقاً على المثالي)، لا يعيش هؤلاء اللاجئون حياة مُعلَّقَةً أو في المؤقت نفسه الذي يعيشه من فُرِضَت عليهم الحياة في مخيمات: يسكنون في منازل مؤقتة، ويعملون في أعمال قد تكون مؤقتة، لكنهم يتولون أمر أنفسهم بمقادير مختلفة ويستطيعون التخطيط لحياتهم. التخطيط يعني التغلُّبَ على المؤقت، وإن يكن تغلباً مؤقتاً هو ذاته؛ المعركة مفتوحة. في النهاية فرصتنا في الوجود مؤقتة، لكن مفاوضة الحياة تبقى ممكنة ما لم نُستَعبَد.
هذه المجموعة الأوسع من اللاجئين ممن لا يقيمون في مخيمات لا تعيش حياة مُعلَّقةً في انتظار العودة، ويغلب أن تكون في وضع أفضل لمفاوضة حياتها في الشروط الجديدة. وهي تتكون منمتعلمين من شرائح الطبقة الوسطى، شبان أفراد أو أسر شابة، ومهنيون. وعموماً كلما ذهب اللاجئون مسافةً أبعد كانوا كمن يحرقون مراكبهم، فلا يعود زوال أسباب اللجوء كافياً لعودة اللاجئين،على ما تُوهِمُ نفسها به الدولة المضيفة. وهو ما ينطبق أيضاً على اللاجئين في بلدان قريبة، تركية مثلاً، كلما تطاول الزمن بإقامتهم فيها. في مقابلات ميدانية مع لاجئات سوريات في مدينة أزمير التركية، قالت لاجئة مقيمة في تركية منذ ثلاث سنوات ونصف لشناي أوزدن، الأنثروبولوجية التركية المختصة بشؤون اللاجئين، إنها لا تفكر في الرحيل إلى أوروبا لأنها لا تريد البدء من الصفر من جديد، ولا هي تفكر في العودة إلى سورية فقد تعرفت على جيرانها، وأولادُها في المدارس يتكلمون التركيّة، هذا رغم أنها هي بالكاد تتكلم القليل من التركيّة.
في كل حال المسألةُ مسألةُ مسافةٍ وزمن. من أجل مسافة أبعد، ألمانيا مثلاً، تكفي أقصر مدة لجوء من أجل ألا يفكر اللاجئ بالعودة. لقد بذل موارداً وجهداً وطاقة من أجل الوصول إلى هنا، غامر بحياته وتخيَّلَ عالماً يُعاش فيه، بحيث أن خسارة هذا الاستثمار يمكن أن تكون مُدمِّرةً له. في بلد أقرب يلزم زمنٌ أطول من أن أجل أن يصبح اللجوء وضعاً غير عكوس.
هناك، أخيراً، أقليّةٌ من لاجئين واجهوا صعوبات أقلّ في الحركة، ويمكن لهم الإقامة في بيوت والتخطيط لأوقات أطول. هؤلاء وصلوا مهاجرهم الأوروبية بالطائرة غالباً، ولم يواجهوا مخاطر الطريق براً أو عبر البحر. منهم أناس ميسورون يحوزون رأسمالاً مادياً يُعترف به في كل مكان، لكن منهم فنانون وأكاديميون ومعارضون سياسيون معروفون، يحوزون رأسمالاً رمزياً يمكن أن يُعترَفَ به أو يواجهُ الاعترافُ به عقباتٍ يمكن تذليلها. بعض هؤلاء ألِفوا العيش في المؤقت كاختيار، وهم يستطيعون العيش في كل مكان تقريباً بفعل تكوينهم، ويناسبهم نمط الحياة المترحل، وبخاصة من هم في عمر الشباب منهم. هؤلاء لا يعيشون اللجوء في انتظار العودة، دون أن يعني ذلك أنهم لا ينتظرون العودة أو لا يرغبون بها.
الشريحة الحائزة على الرأسمال الرمزي من بينهم، هي التي يشغلُ «المثاليُّ» وزناً مميزاً في تكوينها وفي صياغة توقعاتها وتصورها لدورها ووعيها الذاتي. أعني بالمثالي إدراجَ أبعادٍ تتصل بالقضية العامة التي يشكّلُ اللجوءُ أحد وجوهها، والتطلّعَ إلى أوضاع لا لجوء اضطرارياً فيها. يريد«المثاليون» العودة لأن العودة جزء من تعريفهم لأنفسهم. يعيشون في المؤقت ليس لأن حياتهم الشخصية في اللجوء مُعلَّقَة، ولا لأن التعليق يطال حياتهم العامة، ولكن لأن تصورهم المثالي لأنفسهم هو المُعلَّق إذا استبعدت العودة منه. هذا واضح اليوم بخصوص الفلسطينيين أكثر من السوريين، بقدر ما إن العودة عنصر مكون لوعي الفلسطيني لذاته، وإن لم يعن ذلك أن اللاجئ الفلسطيني عائدٌ حتماً لو تسنت له الفرصة. بخصوص السوريين لا ترتبط العودة إلى اليوم بوعي ذاتي سوري جمعي، أو بهوية سورية جامعة، ولكن بتصوّرِ سوريين لدورهم ولسورية المثالية.
هذا لا يعني حتماً أن العودة فكرة تخصُّ المثاليين من الملتزمين سياسياً وفكرياً وحدهم، أو الفقراء المهانين من اللاجئين وحدهم. كلُّ اللاجئين في جانب من أنفسهم يحلمون بالعودة في تقديري. قد لا يمارسونه إن تَيَّسَر، بل ربما يقاومونه إن فُرِضَ عليهم. لكنهم يحتاجون إلى مُتخيَّلِ العودة من أجل إعادة العثور على ماضيهم ووصل الحياة المنقطعة. «العودة» هي عودة إلى الماضي، ماضينا، من أجل أن نستطيع الانفلات منه أخيراً،ويصيرَلنا حاضر.
المثالي بخصوص اللاجئين الواقعيين هو أن يستطيعوا البقاء في ملاجئهم، حيث بنوا حياة وتجاوزوا المؤقت والهشاشة، وفي الوقت نفسه أن يستطيعوا العودة إلى مواطنهم الأصلية يتفقدون بيوتهم أو بقاياها، ويلتقون بأهاليهم وجيرانهم. المثالي هو أن يكون لهم وطنان لا واحداً، أن يستطيعوا اللجوء من أحدهما إلى الآخر، أو الحركة بينهما من باب التنويع والاغتناءو… الحرية.
لكن الأمر لا يتوقف على اللاجئين وتفضيلاتهم وقرارتهم. قانونياً، معظم السوريين في أوروبا لاجئون إنسانياً، ويُفتَرَضُ أن يعودوا إلى بلدهم بانتهاء «الأزمة». واجتماعياً يحصل أن يتعرضوا لمضايقات في الحياة اليومية، أو يفشلوا في تأمين عمل ويعيشوا على دعم متواضع من وكالات حكومية. وهم في كل حال جزءٌ من طيف البريكاريا2 الواسع، يُغالبون شروطاً من اللا-يقين واللا-أمان، وبصعوبة بالغة يُغالبون هشاشةَ وضعهم. وليس التغلّبُ مضموناً بحال. وضعُ اللاجئ القلققد ينعكس في سلوك اجتماعي جانح (تحرّش)، أو في العمل في أنشطة محظورة (مخدرات)، أو في حالات قصوى في منظمات عدمية.
سؤال: ماذا بعد؟ لا يفارقُ أُفُقَ تفكيرِ اللاجئ. وبرفقة هذا السؤال يعاود المؤقتُ فرضَ نفسه. يعرف أنه ليس مستقراً هنا، أو أن قرار الاستقرار ليس قراره، أنه إما عائدٌ إلى ما قبل، أو ذاهبٌ إلى مكان آخر، أو يموت بعيداً فيخرج من المؤقتَين معاً، السياسي والوجودي.اللجوء ليس إقامة في مكان غريب، أنه إقامة في الزمن الفاصل بين ما قبل وما بعد، في المؤقت.
وهذا متصل بحقيقة أن الشرط الجوهري للاجئ يتمثل في انفصاله عن الأرض، أنه لا يقيم في أرض ثابتة. «خارج المكان»، يقيم اللاجئ في الزمن. إنه خفيف، يكاد يكون متطايراً، لا تحكمه الجاذبية الأرضية. اللاجئ هو المقابل الأقصى للمزارع الذي يعيش في زمن طبيعي حَلَقي متكرر، له بدايات ونهايات معلومة. زمن اللاجئ خطي، له بداية، لكنه لا يتكرر، وبلا نهاية معلومة. في المدينة دون أن يكون مدينياً، منفصل عن الطبيعة وغير«مندمج» في الثقافة، يعاركُ اللاجئُ مُدُناً غريبة لا يعرفها.
أختمُ بسطورٍ عن سياسة المؤقت، سوريّاً. مؤقتُ عالمِ اللجوءِ السوري مُركَّبٌ على نحوٍ مُركَّب. لا تزال العودة إلى الوطن والماضي مُتعذِّرَةً بفعل حرب الإبادة الأسدية، وتفوّقِ قوة النبذ على قوةِ الجذب والعودة. هناك مؤقتٌ مستمرٌ منذ سبع سنوات، يجعل من مؤقتِ اللجوءِ مُركَّباً، والعودة مُرجأةً باستمرار. وفي ثنايا هذا المؤقت نبتت مؤقتات متنوعة، إسلامية وغيرها، شاركت في استباحة حياة من وقعوا في ظلها، مع مشاركتها المؤقتَ الأسديَّ رهانَهُ الأبدي.
المؤقتُ الأسديُ مُركَّبٌ فوق مؤقت آخر، أكلَ أعمار معظم السوريين الأحياء، أعني العيش في حالة طوارئ مستمرة منذ 55 عاماً إلى اليوم. هذان المؤقتان المديدان معاً هما سوران لحماية المديد الذي لا ينتهي، الأبد. ما كان يجب أن يكون قاعدة: حياةٌ مستقرةٌ للسكان ضمن أُطُرٍ قانونية معلومة، صار استثناءاً موصولاً؛ وما كان يجب أن يكون استثناءاً: حكم فرد أو أسرة، صار قاعدة دائمة و«طبيعة». المعنى السياسي للأبد هو عيش السكان في لجوء داخلي دائم، منكشفين أمام مؤقتٍ لا ينتهي،مُبَاحين للإبادة أن أرادوا التخلّصَ من الأبد.
كانت الثورة سورية جهداً جمعياً للخروج من الأبد إلى التاريخ. كلاجئين صرنا في التاريخ، لكن طاحونة الأبد هناك لا تزال تشتغل بالدم. والدرس الذي قد نتعمله من سورية هو أن الأبد لا يوجد في الزمن المعاصر إلا في شكل استثناءٍ مستمرّ، مؤقتٍ لا يكفُّ الأبديون عن إدامته. الأبدُ هناك هو السورُ الذي يمنع أن يكون «وداع سورية… مؤقتاً» هنا.
- قُرِئت ترجمةٌ انكليزية للورقة في مهرجان MaerzMusik في برلين في السابع عشر من آذار الجاري، وأعقبها نقاش مع جمهور الحضور، وكانت ثيمة المهرجان هي سياسة الزمن أو الزمن كمقولة سياسيّة. والمتكلّم في أول التسجيل المصور هو برنو أود بولزر، مدير المهرجان.
- المفهوم للاقتصادي البريطاني غاي ستاندينغ، وهو مزجٌ بين كلمتي بريكاريوس التي تعني متقلقل وغير مستقر، وبروليتاريا، الطبقة العاملة الصناعية، ويقصد بالبريكاريا «طبقةً» اجتماعيةً متعددة الشرائح، يجمعها تقلقل وضعها وعيشها في شروط غير مضمونة وغير متوقعة. هنا يعرض ستنادينغ لنظريته عرضاً موجزاً.
موقع الجمهورية
في وداع سورية… مؤقتا/ ياسين الحاج صالح
بذلت ما أستطيع من جهد طوال عامين ونصف للبقاء في البلد. كان هذا مهماً لي ككاتب يريد أن يعيش الأوضاع التي يكتب عنها، ومهما لي كمثقف يريد أن يعيش بين الناس ومثل الناس الذين هو منهم، ويحاول فهم أحوالهم. أردت أن أبقى ليس لأني أقوم بعمل لا غنى عنه، ولكن لأن هذا مكاني الذي لا غنى لي عنه. أريد أن أرى سورية وهي تتغير، بعد أن قضيت نصف قرن من عمري وهي لا تتغير.
اقتضى البقاء في البلد جهدا كبيرا أيضا لتجنب الوقوع في القبضة الإجرامية للنظام الأسدي. وبعد نحو عامين من الثورة اقتضى أيضا أن أترك دمشق التي عشت فيها أكثر بقليل من 12 عاما، متواريا في العامين الأخيرين. قصدت الغوطة تهريبا، ثم بعد نحو 100 يوم اتجهت نحو الرقة، المدينة التي عشت فيها سنوات من الطفولة والمراهقة، ويقيم فيها إخوتي، أو من بقي منهم. كانت الرحلة نحو الرقة شاقة جدا. ليس لأنها استغرقت 19 يوما في عز الصيف، وكانت محفوفة بالمخاطر، ولكن لأني قبل بداية الرحلة، ثم وأنا على الطريق المتعدد المراحل، كنت أتابع ابتعاد محطتي الأخيرة، الرقة، التي وقعت تحت احتلال قوة أجنبية عدائي، “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، أو “داعش”، الاسم الذي يبدو مناسبا جدا لغول في إحدى الخرافات التي كنا نسمعها صغارا. قبل مغادرة الغوطة بأيام قليلة علمت أن الغول اعتقل أخي أحمد. وفي الرحيبة في منطقة القلمون علمت، وأنا أتصل للاطمئنان على أحمد، أن الغول اختطف فراس أيضا. هذا زائد على الحد. لم يعد للرحلة معنى، لكني ما كان بوسعي إلا المضي فيها. كنت راغبا في انتهاء رحلة شاقة، كان يخفف من مشقتها رفقة مقاتلين شبان منشقين، وصديق شاب مصور، كان يوثق جوانب من رحلتنا بكاميرته.
لكن لم تعد نهاية الرحلة غاية شخصية، ولم يعد لانتهاء المشقة بهجة خاصة. قضيت في الرقة شهرين ونصف متواريا. ولا معلومة واحدة عن فراس خلالها.
لا شيء يمكن أن يكون أسوأ. بدل أن أصلها محتفلا، أعيش متواريا في مدينتي “المحررة” بعد عامين ونصف من الثورة. هذا بينما يتحكم أغراب فيه وبحياة سكانها، فيحطمون تمثالا متواضعا لهرون الرشيد، ويعتدون على كنيسة، ويستولون على أملاك عامة، ويعتقلون بشرا ويغيبونهم في سجونهم، ومن الناشطين السياسيين حصرا، وليس أبدا من خدم النظام السابقين وشبيحته. وعدا هذا العدوان على البشر والرموز والأشياء، لا يبدو أن القوم يعرضون شيئا من روح المسؤولية العمومية التي يفترض أن تقع على عاتق من يشغل موقع السلطة.
أردت أن أبقى في الرقة أطول وقت ممكن لأفهم كيف جرت الأمور على هذا النحو، ولأكون فكرة عن المتحكمين الجدد. عرفت أشياء مفيدة، لكن ليس بقدر ما ينبغي لأني لم أستطع التجول ماشيا في شوارع المدينة، وسماع القصص من الناس، دع عنك مقابلة أمراء “الدولة الإسلامية في العراق والشام” وعموم “مجاهد”ـيها.
ألا أمشي في شوارع الرقة في الخريف… ليس هذا سببي للرحيل، لكنه كبير وحده. في مطلع الثورة كنت أقول مازحا لأصدقائي: أريد إسقاط النظام كي أحصل على جواز سفر! كنت أريد جواز سفر كي أشعر أني حر، أسافر حين أريد.
اليوم أترك ورائي أصدقاء مستمرون في الكفاح، كان وجودنا في الداخل يؤنس ويشد أزر كل واحد منا.
لست مريرا، غاضب بعض الشيء. أدرك كم حالنا مستحيلة، لكن كلما ظننت أني فهمت شيئا أو استطعت إضاءة شيء أشعر بانتصار صغير على الوحش البهيم متعدد الرؤوس الذي يريد أن نبقى في الظلام، ألا نملك الكلام، وألا نريد غير ما يريد.
أكثر ما أخشاه الآن هو ألا أفهم خارج سورية. أن تستبهم علي الأمور. كنت أفهمُ في سورية. كانت وطني.
لا أعرف بالضبط ماذا سأفعل في “المنفى”. طالما شعرت بالضيق في السابق من هذه الكلمة. كانت تبدو أشبه بسخرية من الباقين في البلد. اليوم ربما يتغير معناها، لتتضمن تجربتنا المهولة، تجربة الاقتلاع واللجوء والتشتت، وأمل العودة.
لا أعرف ما سأفعل، لكني جزء من هذا الخروج السوري الكبير، ومن العودة السورية المأمولة. وإن يكن أشبه بمسلخ اليوم، وطننا هذا ليس لنا غيره، وأعرف أنه ليس ثمة بلد أرأف بنا من هذا البلد الرهيب.