صفحات الرأي

العيش في ظلّ الديكتاتور

شاكر الأنباري
عملية صناعة الديكتاتور، وكما شاهدناها في اكثر من تجربة عربية وعالمية، عملية معقدة وطويلة الأمد. انها تحتاج الى وقت من أجل ترتيب هيمنة حزب على مقاليد الحكم، ثم لينبثق شخص من ذلك الحزب تطلق عليه صفة الديكتاتور. مقومات الديكتاتورية اقتصادية، وأمنية، وعسكرية، واعلامية، وآيديولوجية، ومن دون توفر هذه الأسس يصعب اشادة الهيكلية الديكتاتورية في الحكم. وهذا ما توافر لديكتاتوريات عرفناها في حياتنا السابقة مثل نظام صدام حسين والقذافي وحافظ وبشار الأسد. وعلى صعيد التجارب العالمية كان هناك النظام النازي في المانيا، والفاشي في ايطاليا، وجمهورية فرانكو في اسباينا، وبعدها ديكتاتوريات اميركا اللاتينية وافريقيا وشيوعية كوريا الشمالية، وكل ذلك على سبيل المثال لا الحصر. فثمة ديكتاتوريات عديدة في العالم، منها صغيرة ومنها كبيرة، مع تباين في الظرف المحلي بين هذه الديكتاتورية او تلك.
الديكتاتورية منذ اول مجيئها الى الحكم تحتاج الى اكتساب شرعية، اما عن طريق انقلاب ثوري او عن طريق الانتخابات. في حالة العراق مثلا قدم حزب البعث تلك الشرعية عبر ايديولوجيا ثورية لتغيير الواقع، وتثوير الرابطة القومية العربية للوصول الى وحدة الأمة، وكان لا بد من وجود حزب يرفع تلك الشعارات برداء علماني يعبر الطوائف، والأديان، والقوميات احيانا، مما سهل له لملمة خيوط السلطة في يديه، ليستولي قليلا قليلا على الدولة. لكن لابد لهذه الآلية ان تمر عبر امساك خيوط الجيش، والمخابرات، والأمن، فتم حصرها في فئة المؤيدين وأعضاء الحزب او مناصريه. تم استبعاد كل من ليس من هذه الحلقة الضيقة، وذلك باستخدام العنف، والاقالة، والرشوة، والتصفيات غير المفهومة. وكان لتلك الآلية غطاء اعلامي يبرر الخطوات الحثيثة والمبرمجة، وهذا ما استدعى استقطاب الاعلام، سواء المؤسساتي او الخاص، لكي ينطق بلسان الحكم، ويبرر اي عمل استثنائي او غير قانوني. وهكذا اخرجت الكفاءات الاعلامية من اغلب مؤسسات الدولة، وألغيت المنافذ الاعلامية المستقلة، وهاجر من هاجر او صمت من صمت. ترافق هذا مع وجود اغراء كبير، مادي ومعنوي، لمن يود الالتحاق بالاعلام الرسمي المتاح على الساحة. وعملية مبرمجة تشتغل على أكثر من جبهة، يحتاج الأمر الى ميزانيات ضخمة، وهذا ما يدفع الحزب او الديكتاتور الى الاستيلاء على العائدات الاقتصادية وتسخيرها لشراء الذمم، وخلق مؤسسات تابعة له، وتشييد مشاريع استراتيجية عسكرية ترفده بالقوة الاقتصادية، يشرف عليها اشخاص من الموالين، ولا تخضع لرقابة قانونية، او صحافية، او شعبية. بيئة الديكتاتورية تنظف نفسها من منظمات المجتمع المدني، وان وجدت فهي كارتونية لا يعتد بها لكي تراقب ما يجري في اروقة السلطة. وليست هناك سلطة رابعة تكشف الحقائق للشعب، في ظل اعلام احادي مسيطر عليه، وسلطة قضائية يعينها الحاكم وتفصل له القوانين وفق رغباته السياسية وأهوائه السلطوية.
هذه العملية لا يمكن اكمالها دون ضرب المعارضين، اي القوى السياسية التي كانت قائمة قبل مجيء الديكتاتورية، اما بالحاقها بسلطة الحزب الواحد كما في التجربة السورية، عبر أحزاب الجبهة الوطنية لتي كشفت الثورة السورية حقيقة هزالها وبؤسها الفكري والسياسي، او بملاحقتها وسحقها عنفيا كما في الحالة العراقية. ويفترض الديكتاتور، دائما، ان تكون المؤسسات الحزبية والمهنية والشعبية التي يخلقها هي القائدة في المجتمع، وهي الوحيدة التي تمتلك الحقيقة. وقد رأينا في اللجان الشعبية الليبية خير مثال على الاستبداد الفوقي الذي يلغي اي تمايزات في الرأي، ويصفي حتى لو كان ذلك بالقوة اي معارضة لآلية الديكتاتورية الحاكمة. وكون الديكتاتور لا يقبل رأيا غير رأيه لذلك عادة ما تكون القوانين والقائمون عليها من صنعه وبموافقته. آراء الديكتاتور، ونزواته، تصبح قانونا، ويمكن ان يكون الدستور، ان كان هناك دستور، مجرد غطاء لشرعية الحكم. فنصوص الدستور يمكن ان تلوى، وتفسر بطرق هلامية، وتنتقى حسب الحالة التي يريدها الحاكم.
وأغلب الدساتير الموجودة في النظم الشمولية كانت تمتلك نصوصا جميلة حول الحريات الشخصية، والحريات العامة، ومشاركة الشعب في صنع القرار، وحرية الصحافة والإعلام. لكن النصوص في واد وواقع الأجهزة الأمنية والسجون في واد آخر، حيث تغص تلك السجون وأبنية الأجهزة وأقبيتها بنزلاء يمارس عليهم التعذيب، والقتل، وفنون العذابات النفسية لانتزاع الاعترافات، او تلبيس التهم، او كسر شوكة السجين وكرامته، دون ادنى اعتبار للنصوص الجميلة التي زين بها الدستور. مصداقية القانون على المحك، لذلك عادة ما يميل القانون الى وجهة نظر الحكومة، ومصداقية القضاء في الدول المتطورة اجتماعيا وديمقراطيا تتأتى من قدرة القضاء على الوقوف ضد قرارات حكومية او حتى تشريعية في مجلس النواب، كما حصل في فرنسا حول قانون مذابح الأرمن، اذ نقضت المحكمة العليا قرارات مجلس النواب الفرنسي والحكومة دون اي خوف من التنكيل او الاقالة. هكذا مفارقات لا تحصل في الأنظمة الديكتاتورية. القضاء عادة ما يكون ذيلا للسلطة الحاكمة.
والديكتاتور عادة ما يحيط نفسه بمستشارين من حزبه وطائفته وقوميته، فهو لا يرغب في سماع ما هو خارج حلقته الضيقة، ولا يرغب في رؤية مستشار له وزن فكري او سياسي، اذ عادة ما يكون المستشارون امعات يُسمعون الحاكم ما يرغب في سماعه، وينقلون عنه ما يريد ايصاله بطرق التفافية تسويغية تزويقية. هم يلطفون فظاظات الحاكم، ويفلسفون أكاذيبه، أو آيديولوجيته المجافية للواقع. يستقوي هو بالضعفاء لا بالاقوياء من رجال دولته، لذلك عادة ما تكون هذه الحاشية تافهة حين تصبح خارج السلطة، وثقلها المعنوي الذي تمتعت به منحت لها لقربها من الحاكم، وليست نابعة من القوة الشخصية المميزة. والديكتاتور يجمع السلطات في يده، سواء بشكل مباشر او غير مباشر، ويصل في فترته الذهبية الى قناعة انه الوحيد الذي يمكنه حكم البلد. ولعل الشعار الذي وجد مكتوبا على جدران حمص يمثل هذه القناعة خير تمثيل: اما الاسد أو لا احد. والحكمة البعثية التي تداولها الناس ذات مرة في العراق تقول: البلد الذي لا نحكمه نحوله الى خراب.
وهكذا، فالحاكم الفرد لا يقاسم غيره السلطة، لا حزبا ولا طائفة ولا قومية، اذ تختصر في شخصه المقولات كلها. والديكتاتور لا يتورع عن استخدام الأساليب كافة لإدامة هيمنته كالقتل، والتزوير، والتضليل، وارعاب الخصم. في ذلك يعمد عادة الى خلق دولة بوليسية، تحصي الأنفاس على مواطنيها، وتتجسس عليهم، وتوقع بهم، وتتلصص على قضاياهم الشخصية من اجل جمع اكبر عدد ممكن من الملفات حولهم لكي تجهز عليهم عبر تلك الملفات في الوقت والمكان الملائمين. لذلك يعتبر العالم العربي من اكبر المصدرين للمعارضين في العالم، ودول اوربا واميركا تمتلك شريحة واسعة من المثقفين العرب، والسياسيين، ورجال الدين، والأكاديميين، لم يعد لديهم فرص في بلدانهم لا للعيش الكريم ولا حتى لمزاولة نشاطهم الأكاديمي او الفكري او الثقافي. والحلقة المهمة التي يفكر بها الديكتاتور عادة هي حلقة رجال الدين. هؤلاء يمنحون حكمه الشرعية الدينية التي لا بد منها في مجتمعانا، وهؤلاء ينتسبون الى الشريحة المعروفة في التاريخ الاسلامي بكل عهوده والمسماة بوعاظ السلاطين، فهم يفتون بالشيء ونقيضه حسب الجهة ذات الكفة الراجحة. وقد رأينا فتاوى في الثورة اليمنية تحرم التظاهر واخرى تعتبره واجبا شرعيا، وكذلك في مصر وتونس وليبيا وسوريا والعراق ودول أخرى.
اما الشفافية التي تعتبر واحدة من مداميك الديمقراطية فهي ألد اعداء الديكتاتور، الفاضحة لما هو مصنوع خلف الجدران، والمبطلة للأكاذيب، والكاشفة للأسرار التي تتداولها النخب الضيقة المحيطة بالحاكم. ومن اجل التحايل على الشفافية يعمد الحاكم وبطانته الى خلط الأوراق، فيأتي التصريح ونقيضه من جهة واحدة او جهات عديدة، حول حدث واحد، وتتحول الصحافة الى ميدان لخلط الأوراق، لكي تضيع الحقائق بين ركام من التقولات، والتفسيرات، والتصريحات المتناقضة. وهي رؤية مارسها غوبلز وزير اعلام هتلر طوال الفترة النازية لكنها أوصلته الى المشنقة. ونشاهده اليوم في الوضع العراقي المرتبك، وتعيشه بوضوح الساحة الإعلامية السورية، وملحقاتها، من شبيحة الإعلام اللبناني المناصرين لنظام الأسد.
والديكتاتور هو تكثيف لثقافة مجتمع محلي فيه الأب هو السيد المطلق في البيت، والمعلم هو السيد المطلق في المدرسة، والمحافظ حاكم أوحد لمحافظته، وهكذا تتزامن التراتبيات مع شيخ القبيلة، وشيخ الجامع، ومفتي التيار، والدين الأصلح الوحيد، وصولا الى الانسان السوبرمان الذي يعرف كل شيء، ويصلح لكل زمان ومكان، وكلامه يكاد ان يكون وحيا لا يأتيه الباطل من يمين أو شمال. وذلك هو ديكتاتور زماننا، القادم من غابة الحداثة الشائكة، مدججا بأسلحة فتاكة يواجه بها صدور شعبه الأعزل.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى