صفحات العالم

الغائب الأكبر في الأزمة السورية


محمود الريماوي

خلال الشهر الأخير من العام 2011 أعلن عن الاستعداد لانعقاد مؤتمر عام جديد لحزب البعث (السوري) .جاء هذا الخبر ليعيد التذكير بأن الحزب هو الحاكم في دمشق، وأن هذا التنظيم ما زال قائماً . ذلك أنه منذ بدء موجة الاحتجاجات في أواسط مارس/آذار الماضي، فإن الأخبار حول هذا الحزب  ظلت شحيحة . في الأسابيع الأولى ومع ارتفاع المطالبة بإنهاء احتكار الحزب لقيادة الدولة والمجتمع خرج الأمين العام المساعد محمد سعيد بختيان، ليعلن رفضه لمطلب المعارضة، محيلاً الأمر إلى مجلس الشعب ( النواب) للبت فيه، وصرح بما يفيد أن الحزب احتل هذا الموقع ب “نضاله” .

بعدئذ وفي غمرة تصاعد الاحتجاجات، تم الإعلان عبر مصادر المعارضة، عن بضع حالات استقالة  فردية وشبه جماعية من الحزب، وقد ظل أمر الاستقالات محدوداً وفي بعض المناطق فقط دون سواها، ليختفي مجدداً أثر الحزب لبضعة أشهر، ليعود بعدها إلى دائرة الضوء، ليس عبر نشاط معلن له، وإنما من خلال الأنباء التي ترشح عن لجنة إعداد دستور جديد . فقد تواترت الأنباء عن توافق اللجنة على الغاء المادة الثامنة من الدستور التي تقضي بكون الحزب قائداً للدولة والمجتمع . قيادة الدولة تعني تسنّم المواقع القيادية في سائر السلطات من طرف منتمين للحزب .

أما قيادة المجتمع فتعني ان الاتحادات والنقابات والمنظمات والجمعيات الاهلية تُقاد حُكماً ووجوباً من بعثيين بما في ذلك الهيئات المنتخبة مثل اتحاد الكتاب العرب (السوري) اذ يتم في العادة تعيين رئيس بعثي له، أياً تكن نتائج الانتخابات . الأخبار عن الغاء هذه المادة لم تترك كبير أثر، إذ إن موجة الاحتجاجات تجاوزت هذا المطلب الذي كان مرفوعاً في البداية ولم يتم الاستجابة له آنذاك . إذ رأى فيه من رأى في الأوساط الرسمية آنذاك أنه من قبيل عملية “اجتثاث البعث” في العراق .

مع ذلك فقد تم التوافق في اللجنة على نزع هذا الامتياز من الحزب، الذي تمتع به منذ أكثر من أربعين عاماً متصلة . وبطبيعة الحال فإن سريان هذا الاقتراح منوط بمرور عملية اعداد الدستور على مجلس نيابي منتخب، وليس معلوماً متى تجرى انتخابات نيابية، وكان مسؤولون تحدثوا سابقاً عن شهر  فبراير/شباط ثم مارس/آذار، وفي الخطاب الاخير للرئيس بشار الأسد تحدث عن شهر مايو/أيار، أو يونيو/حزيران كموعد تقديري مستهدف .

في أواسط يونيو/حزيران الماضي وجه الشاعر السوري/اللبناني أدونيس رسالة مفتوحة للرئيس الأسد، حمل فيها الشاعر بشدة على الحزب وهيمنته على البلاد والعباد، وانتقد ما اعتبره بنيته المتعصبة . لقيت الرسالة ردوداً واسعة عليها من طرف مؤيدين للمعارضة بالذات، وقد كان من اللافت أن الطرف المعني وهو حزب البعث لم ينبر للرد على رسالة الشاعر، رغم ما يمتلكه الحزب  وما يمثله من ناطقين باسمه هنا وهناك، ولا من هيئات إعلامية بما في ذلك الصحيفة السورية التي تحمل اسم “البعث” .

الذين يتابعون مجريات الأحداث الدامية في هذا البلد منذ نحو عشرة أشهر متصلة، وهم كُثُر، وبصرف النظر عن أهوائهم وميولهم، لا بد لاحظوا أن  رئاسة الجمهورية  ووزارة الخارجية  والتلفزيون الرسمي ذات حضور ملحوظ في الإضاءة الخاصة بها على الأزمة، فيما الغائب الأكبر عن “هذا الخضم”، هو الحزب الذي ما زال “قائد الدولة والمجتمع”، فكيف يغيب من له صفته هذه في هذا المنعطف المصيري الذي يشهد تحديات جساماً، عن مخاطبة المجتمع والشعب العربي السوري والأمة العربية والعالم، إذا استعار المرء ديباجات الحزب السائرة؟ لا يتعلق التساؤل هنا ب”القيادة القطرية” السورية فحسب بل بمنظمات الحزب وهيئاته، ثم بجُرمه (جسمه) الكبير المليوني الذين لم يلحظ المرء وجوداً لهم ( الأعضاء)  في الشارع بصفتهم الحزبية . كيف تأتى هذا الغياب في هذا الظرف بالذات، وقد كان يرْشَح عن  أدبيات الأمن الاستراتيجي للدولة، أن الحزب بعد الأمن والجيش هو الطوق الثالث الحامي للحكم؟

ليس هناك من تفسير معلن عند أصحاب  الشأن لهذا الاختفاء . فالحزب أعلن في بداية الاحداث  التصاقه بالحكم، لكنه كف بعدئذ عن الجهر بمواقفه، وعن تبيان أي دور أو جهد “نضالي” أو سياسي من أي نوع ، وليس معلوماً ما موقفه بالضبط من “جماهير الشعب” التي ما انفكت تخرج إلى الشارع، والتي طالما أعلن أنه المعبر عنها والناطق باسمها؟

في غيبة الأجوبة المكتوبة والمقروءة والمسموعة،  فإنه لا بد من الاحتكام إلى ما تنطق به الوقائع الجارية . وهو أن الحزب لا وجود له خارج السلطة ومظاهرها وأدائها . وأن هياكله يمكنها أن تنشط في ظروف عادية لغايات التعبئة والتأطير والتحشيد وتثبيت الولاء، أما في ظروف استثنائية كالظرف الذي تمر به البلاد منذ أواسط مارس/آذار الماضي، فإن النضال الحزبي كما هو بادٍ لا يعول عليه، لا يقدم ولا يؤخر قياساً بما هو منوط بالأجهزة  الأمنية والعسكرية والشرطية المستنفرة جميعها، والتي لا تعمل بطبيعة الحال وفق أي قواعد ومعايير حزبية، حتى لو كانت قياداتها وأعضاؤها ينتمون إلى الحزب .

بالتمعن بهذا الاستخلاص الذي تزكّيه مجريات الأحداث، فإنه يمكن تفسير مراجعة الموقف من المادة الثامنة والانتقال من التمسك التام بها إلى إبداء الاستعداد الكامل لإلغائها، فقد ثبت في الأزمة أن الحزب لا ضرورة له ولا ضرر من الاستغناء عن خدماته، وأنه أنجز مهمته منذ أمد بعيد في تأمين غطاء أيديولوجي للوصول إلى السلطة في العام ،1970 ثم احتكارها ومعها احتكار الصواب والسيطرة على المجتمع والأفراد .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى