الغرب إذ يتخلى عنا لنكون أكثر شرقاً/ عمر قدور
ما كان متوقعاً في البداية أن تسفر انتفاضات الربيع العربي عن اتساع الهوة بين الشعوب العربية والغرب، فتحقق مطالب الثورات «في ما لو تم» كان يفترض به تقليص هوتين، الأولى منهما داخلية بين السواد الأعظم المحكوم و «النخبة» الحاكمة، والثانية هي الفجوة العميقة التي تجعل المجتمعات ممتنعة عن الانخراط الشامل، وغير المشروط، في ثقافة العصر. وعلى رغم رفع الانتفاضات مطالب محض داخلية، وعلى رغم العوائق الأيديولوجية لدى بعض المنخرطين فيها لجهة العداء المقيم للغرب، إلا أن رزمة المطالب المتعلقة بالحريات والديموقراطية تتضمن الاقتراب من الغرب، وفيما لو تحققت فذلك سيجعل العداء له أو التصالح معه خاضعين فقط لتقلبات السياسة.
اتهام الغرب بالتآمر على الأنظمة فور اندلاع الثورات أمر لا يمكن رده فقط إلى نزعة تآمرية لديها، فالأنظمة المستهدفة رأت في الثورات ضدها مشروعاً يلتقي مع الغرب بما يفوق تنسيقها معه أمنياً أو سياسياً. أما تلويحها بالأصولية فلا يتوقف عند تخويف الغرب بالبديل «الإرهابي»، أي أنه ليس استخداماً أمنياً فحسب، بل هو التلويح بمشروع قطيعة تامة ينجزها البديل المتطرف. بهذا المعنى، جزء من رهان الأنظمة على الغرب يتعين في قبول الأخير مستوى متدنياً من العلاقة مع المجتمعات العربية على أنه أفضل الممكن، وهذا المستوى «المنضبط» تحققه الأنظمة القائمة بدل المخاطرة ببديل أصولي أسوأ. استنكاف الغرب عن التدخل القوي في مجتمعات الثورة هو علامة على اكتفائه حقاً بالمستوى المتواضع للعلاقة منذ عهد الاستقلال، لا يخرج عن هذا الإطار الخيبات والخسارات التي مني بها في مرات تدخله فيها مباشرة.
أيضاً، في جانب آخر من مطالبها، ظهرت الثورات كأنها مشروع دخول إلى عصر الحداثة، وذلك لا ينص فقط على المستوى الإجرائي للحريات، بل يمس أيضاً المستوى الاحتكاري الريعي للسلطة، ويفتح الباب أمام عملية رسملة مجتمعية، إذ أثبتت التجارب العالمية كلها هباء الحديث عن ليبرالية سياسية من دون حد أدنى من الرسملة، الحديث عن تنافس سياسي منفصل عن الحرية والتنافس الاقتصاديين نوع من الانتقائية السمجة ليس إلا. وهذا ما يفسّر مسارعة الأنظمة إلى إظهار نفسها بوصفها الأكثر حداثة في مجتمعاتها، على رغم تمتعها بكافة ميزات الاحتكار الريعي، حيث دفعت بمجموعة من الرموز الشكلية لإظهار حداثتها مقابل التركيز على رموز تُظهر «تخلف» خصومها. بدايةً، فشل الادعاء الشكلاني مقابل الفحوى الـــحداثي للمطالب، ومع تراجع الثاني تقدم الأول ليكسب معركته في الغرب، حتى على حساب الدوافع الإنسانية والأخلاقية.
على فرض النجاح المطلق للثورات، فهـــي كانت ستنجز مهمات حداثية طال انتظارها، ذلك لا يعني الانضمام الفوري إلى العصر بقدر ما يعني بداية السير في اتجاه يجعل مجتمعاتها منتمية إلى العالم. فالحق أن «المركز» الغربي قد قدم نقـــداً جذرياً لحداثته، ولمركزيته، مع أفول الـمرحلة الكولونيالية، وعلى ذلك ينتمي جـــزء كبير من تياراته الفكرية والسياسية إلى ما بعــد الحداثة. تخلي الغرب عن فكرة التدخل الخارجي المباشر، وقبوله بأنماط ما دون حداثية، عائدان إلى تخلصه من مركزيته، بينما لا يكف عن كونه مركزاً في العقل العربي السائد. هذه المركزية الأحادية، إذا جاز التعبير، تعفي أصحابها من الاستحقاقات الذاتية، وتنتمي إلى مرحلة منقضية في العقل الغربي عموماً.
إننا نطالب الغرب بأن يفكر بنا حداثياً، في وقت لم تعد فيها الحداثة سائدة لديه، ولم تُنجز في مجتمعاتنا بعد. مهمة الغرب، وفق هذا التصور، هي مساعدتنا على إنجاز الثورات المطلوبة لنصبح غرباً، بينما كفّ الغرب عن «تبشيره» الاستعماري أو الفكري، ولعل هذه الفجوة تفوق الانتقادات الموجهة له لأنه لم يقدّم ما هو مأمول منه إنسانياً، إلا أن الادعاءات الفكرية أو السياسية المحلية تسوّق لقدرة ذاتية على التغيير بمجرد الحصول على المساعدة السياسية أو العسكرية، ومن دون تجشم عناء التغيير الأكبر على الصعيد النظري والواقعي. الغرب هنا لا يبارح مكانه منذ ما سمّي عصر النهضة العربية، إذ يُنظر إليه كخير وشر معاً، ويُنظّر للعلاقة معه بوصفها انتقاء لما هو خير فيه واتقاء لشروره، حيث يكمن الشر المتوقَّع في طغيانه على الثقافات المحلية، مرة أخرى في وقت أقلع فيه عن فكرة التبشير أو المثال.
كأننا نطالب بنقل الفجوة إلى الغرب، إذ عليه أن يعود حداثياً في سياسته الخارجية إزاءنا، بينما يكون ما بعد حداثياً في داخله، وأيضاً عندما نطالبه بعدم التدخل. في المقابل، تبدو الاستفادة من منجزات ما بعد الحداثة مشروعة جداً من قبل تيارات أصولية ترجع جذورها إلى القرون الوسطى، ومن قبل أنظمة استبداد لا تتقدم عليها زمنياً إلا من ناحية الشكل. لقد كانت صدمة مؤلمة رؤية الغرب «عاجزاً» عن التدخل لإيقاف المذبحة الممتدة من اليمن إلى سورية، ومن ثم مسارعته إلى التحرك ضد «داعش»، من الناحية الأخلاقية ستكون وصمة أن يؤدي إعدام الرهائن الغربيين إلى حلف عريض بينما مقتل مئات الآلاف لا يستثير الضمير، لكن هذا تماماً هو التعبير عن انتهاء آخر المؤثرات الحداثية مع انتهاء الحرب الباردة، النهاية التي آذنت بانخفاض القيمة الاستراتيجية للمنطقة ككل.
في مناسبتين متتاليتين، الإرهاب هو الذي أعاد الغرب إلى الاهتمام بالمنطقة، ذلك يدحض كل المرويات السائدة عن الوزن الاستراتيجي لها وعن الصراع الدولي عليها. وألا يكترث الغرب بها إلا عندما تصدّر ما يمس أمنه القومي فهي دلالة على تدني المصالح المشتركة الحالية، وعلى اليأس من بنائها على أسس جديدة في الأمد المنظور، ولعل أسوأ سيناريو أن يتمكن الغرب من دفع الإرهاب عن مواطنيه، مع ترك المنطقة تغرق في تناقضاتها وصراعاتها الذاتية، أي تركها لتوغل في كونها شرقاً. الطريف في الأمر أنه هكذا يحقق مطالب قطاعات واسعة في بلدانه وفي بلدان المنطقة، مع اختلاف الأصول الفكرية على الجانبين.كي لا يبقى الإرهاب الوسيلة الأرخص لاستثارة اهتمام الغرب، ثمة شجاعة فكرية مطلوبة، ربما تبدأ بالتخلص من مركزية مشرقية تتلطى خلف العديد من الأيديولوجيات السائدة في المنطقة، لقد فعل الغرب هذا بمركزيته من قبل.
الحياة