الغرنيكا تتكرّر في حلب/ ميسون شقير
يُعرّف ابن خلـدون التاريخ فيقول: “..فإن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشد إليها الركائب والرحال. وهو، في ظاهره، لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق”. التاريخ، إذن، ليس سرداً للأحداث، ولا تسجيلاً للوقائع، بل هو عرض لذلك كله، ولكن مع التفسير والتحليل.
يقول هيغل وكارل ماركس إن التاريخ يعيد نفسه، ولم يكونا يعنيان أن ما حدث مرة في الماضي يتكرر في الحاضر، لكن النظرة العميقة تعني عودة نمط الحركة التّاريخيّة وعودة مظاهره العامة وآثارها على كل الأصعدة السياسية والفكرية والإنسانية، هي عودة لآلية الأسباب، ولطبيعة النتائج. لذا، يعود التاريخ بالتأكيد حين تتوفّر في الحاضر.. في نسيجه العميق كل الأسباب الموضوعية التي أدّت إلى نشوء نمط الحركة التاريخيّة في الماضي.
ضمن هذا المنظور، يكرّر التاريخ نفسه اليوم بعد ثمانين عاما، حين يعيد صناعة مجزرة “الغرنيكا” في حلب، فكلتا المدينتين كان لهما نصيب كامل من الموت الممنهج والشامل، من الدمار الكامل المريع، كأن البشرية لم تقطع أي مسافةٍ، خلال هذه الثمانين سنة، وكأن التاريخ مجرّد اجترار لثقافة المجزرة.
قصفت بلدة الغرنكيا في إقليم الباسك شمالي إسبانيا صباح يوم السادس والعشرين من إبريل/ نيسان عام 1937، بـ 44 طائرة من طابور كاندور الألماني النازي، و13 طائرة تابعة لسلاح جو إيطاليا الفاشية، وبصمت عالمي وتواطؤ أميركي، وذلك دعما للانقلاب العسكري الفرانكوي ضد حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية. بناء على طلب من الجبهة القومية الإسبانية لحلفيها آنذاك، النازية الألمانية المتمثلة بهوس هتلر، والفاشية الإيطالية المتمثلة بدكتاتورها موسوليني، حملت عملية القصف كالاسم الرمزي “عملية روغن”.
استمر قصفها ساعات، وحسب إحصاءات الحكومة، كان هنالك 1654 قتيلاً و800 جريح، من أصل 7000 من إجمالي سكاني البلدة. لذلك، اعتبر عملا إرهابيا، نظرا لاستهدافه سكان المدينة بسلاح متطور جدا آنذاك، من طائراتٍ حربيةٍ ثقيلةٍ وخفيفةٍ محملة بأطنان القنابل المتفجرة والحارقة. وكان حجم هذا الرعب والقتل والدمار الهائل مقصودا لتجهض هذه المجزرة آخر احتمال لبقاء أجمل وأفضل تجربة أوروبية لبناء نظام جمهوري ديمقراطي متقدم ومتفرّد، حمل الدعوة إليه أهم العقول الإسبانية، مثل لوركا وبيكاسو. وبالتالي، ليتم اغتيال حلم آلاف الإسبان، وتفعيل حرب أهلية استمرت ثلاث سنوات، خسر البلد فيها أفضل كوادره من قتل واعتقال وتشريد ونفي، وانتصر الديكتاتور فرانكو، بسبب الدعم المطلق من النازية والفاشية التي خافت من أن يصل المد الجمهوري الديمقراطي إليها، ويزلزل وجودها الهش، وبقي سفاح الغرنيكا أربعين عاما بعدها يحكم البلد بالرعب والحديد.
ثمانون عاما هو الزمن الذي يفصل بين مجزرتين، لهما لون الدماء نفسه، فحلب مدينة التاريخ تدمر بسلاح الجو الروسي، وبسلاح الأرض الإيراني، وبموافقة وصمت عالمي مخجل وخاذل، فحلب هي المدينة التي ثار طلاب جامعتها منذ أكثر من خمس سنوات، وعوقبوا بتصفيتهم جميعا، وباعتقال من بقي، فقد اغتيل ما يزيد على مائة طالب، أغلبهم من كلية الهندسة المدنية، وقتل الطلاب في السكن الجامعي، ورميت الطالبات من الطوابق العالية، وحلب المدينة السورية التي بقيت خاضعةً لسيطرة المعارضين للنظام السوري الديكتاتوري نحو أربعة أعوام، تعرّضت سنة كاملة لقصف مستمر وعنيف، من الجو والمدفعية، من قوات النظام وحلفائه الروس ومليشيات إيرانية، وصمت وتواطؤ عالمي وأميركي أدى إلى تحويل المدينة الأولى على الأرض إلى أطلال، وبقايا شواهد لقبور بلا أسماء.
يقول التاريخ إنه لولا مساعدة هتلر وموسوليني لما انتصر فرانكو، ولما اغتيل لوركا والحلم الجمهوري، ولما كانت مجزرة غرنيكا. ويقول أيضا إنه لولا أطماع بوتين والسلاح الروسي، وإيران ومليشياتها، لما ظل النظام السوري القاتل قائما، ولما كانت مجزرة حلب وحمص والرقة ودرعا وإدلب.
يعيد التاريخ نفسه فينا، نحن السوريين، يعيد فينا مجازره، لكن إسبانيا تحتفي اليوم بمرور ثمانين عاما على الغرنيكا، وتقدس لوحة بيكاسو التي وثقها النشطاء الأسبان يقيمون نشاطا أمام متحف “الرينا صوفيا” الذي يحتوي اللوحة بعنوان “حلب هي الغرنيكا الجديدة”.
ننظر، نحن السوريين المشنوقين بحبل أحلامنا، إلى ابن خلدون، وإلى هيغل وماركس، ولا نرى إلا دمنا، وقد سبقنا إلى كتاب تاريخ العالم.
العربي الجديد