سمير سعيفانصفحات مميزة

الغضب: ديناميكية القوى الاجتماعية في الثورة السورية


 سمير سعيفان

يشير استمرار الثورة السورية على مدى 12 شهرًا إلى زخم وقوة دفع كبيرين، رغم القمع الشديد، وسقوط نحو 7000 شهيد وآلاف المفقودين وعشرات الآلاف من الجرحى ومئات الآلاف ممن اعتُقلوا لمرة أو أكثر.

هذا التصميم، وهذه القدرة المستمرة على هذا المدى الزمني الطويل، يتغذى من الغضب الذي تراكم تلالاً في نفوس السوريين بقوة وعمق وفَّر وقودًا كافيًا كي تستمر طاقة الثورة كل هذه الفترة الزمنية، وتستطيع تقديم هذا الكم من التضحيات. من هنا ركزنا في هذه المادة على جذور الحراك الاجتماعي وأسبابه وأسباب تراكم الغضب الذي فجر الثورة.

انقلاب في الأدوار الاجتماعية والسياسية

تأثرًا بموجة صعود الأفكار الاشتراكية في العالم، وبروز دور الطبقات الشعبية في بلدان العالم الثالث منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين، تعرض المجتمع السوري لانقلاب سياسي واقتصادي واجتماعي أواسط ستينيات القرن العشرين بقيت آثاره قوية على مدى عقود؛ فقد حدث الانقلاب العسكري في 8 مارس/آذار 1963 وجاء بسلطة البعث؛ التي قامت أواسط ستينيات القرن العشرين، تحت مظلة ما يُسمى بالشرعية الثورية، بجملة من الإجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواسعة التي قلبت المجتمع السوري رأسًا على عقب؛ فأممت جميع الشركات الكبرى الصناعية والتجارية والمالية، وقامت بإصلاح زراعي وزعت بموجبه أراضي الملاَّك الكبار على الفلاحين، فاستفاد منها مئات الآف من الفقراء الفلاحين. وأزالت سلطة البعث ما تبقى من الطبقة السياسية القديمة، ومكَّنت نُخبًا جديدة قادمة من الريف وفقراء المدن في معظمها من السيطرة على مقاليد الأمور. وتراجعت أسماء العائلات التقليدية في المدينة وبرزت أسماء القيادات العسكرية والحزبية والحكومية والنقابية الجديدة. وسيطرت الدولة على الاقتصاد والفائض الاقتصادي وأعادت توزيع الدخل باتجاه الفئات الشعبية. وقامت ببناء شبكة طرق ربطت الريف بالمدينة ووصَّلت الكهرباء والخدمات الصحية وتوسعت في بناء المدارس عبر الريف. وعمَّمت مجانية التعليم بكافة مراحله، فتمكن أبناء الريف من نيل التعليم وتحول أعداد كبيرة منهم إلى تكنوقراط وموظفين حكوميين. ووسعت الدولة مؤسساتها بشكل كبير، وكان لأبناء الريف النصيب الأوفر من هذا التوسع؛ مما ربط أعدادًا أكبر من السوريين بالدولة وسياساتها.

خلقت كل هذه الإجراءات فئات واسعة تدعم السلطة الجديدة، فنشأ تحالف تاريخي بين فقراء المدينة والريف والمثقفين “الثوريين” بقيادة الجيش.

بعد صراعات بين أطراف انقلاب 8 مارس/آذار انفرد البعثيون سريعًا بالسلطة، ثم بعد استمرار الصراع بين أجنحة حزب البعث انفرد حافظ الأسد بالسيطرة على السلطة عام 1970، فعزَّز النظام الأمني الذي نشأ مع مجيء البعث عام 1963 وربطه به شخصيًا. وتوسع في قمع الحريات العامة في التعبير والتنظيم. كما قام بشخصنة السلطة، وسمى نفسه “القائد الخالد إلى الأبد”، و”سيد الوطن” وغيرها من الألقاب كي يحيط نفسه بشيء أقرب للقدسية.

من جهة أخرى فتح حافظ الأسد الباب مواربًا لعودة القطاع الخاص؛ فكانت سياسته محكومة بثلاثة عوامل:

خلق رضا عن سلطته داخل سوريا من قِبل الفئات التي مستها إجراءات أواسط الستينيات، وقبوله في العالمين العربي والغربي.

تكوين قطاع رأسمالي من أبناء منطقته ومن يلوذون به؛ فبدون وجود قطاع خاص لن يستطيع تحقيق ذلك.

إسهام القطاع الخاص في تخفيف الأزمة الاقتصادية إلى جانب الدولة وخاصة بعد أزمة ثمانينيات القرن العشرين.

ولكن في نفس الوقت كان الأسد يخشى من قوة رأس المال، فلم يترك له الحبل على الغارب بل أبقاه في يد الدولة، أي بيده، فهو الدولة والدولة هو.

رغم هذه الشروط فقد بدأت الطبقة الرأسمالية السورية بالنمو، ولكن بأوجه جديدة وعائلات جديدة، وبعد أن فقدت الكثير من الكفاءة والمزايا التي ميزت رجل الأعمال السوري؛ حيث بدأت الدولة تنتج قطاعها الخاص على شاكلتها ومثالها.

كان الأسد وبقية قيادات الدولة في البداية بحاجة للقطاع الخاص، لإنتاج طبقة من الأغنياء ممن يلوذون بالنظام، إما عبر شراكة مستترة أو عبر قبض عمولات. لكن بعد بلوغ أبنائهم سن الرجولة انتهت حاجتهم لشراكة رجال الأعمال، فسيطرت مجموعات الأعمال من أبناء المسؤولين على أهم منابع الدخل في سوريا، فأغضب هذا مجموعات الأعمال الأخرى.

حرص حافظ الأسد، بدوافع الحفاظ على الاستقرار، على الموازنة بين فتح الباب لقطاع الأعمال الخاص وبين الحفاظ على شبكة الضمان الاجتماعي، لأنه كان يخشى آثار إهمال مصالح الطبقات الفقيرة.

غير أن مجمل الظروف التي أحاطت بإعادة إنتاج الرأسمالية السورية، والمناخ البيروقراطي لنشاطها والفساد والتضييق عليها والخوف منها، وشراكات المسؤولين والمجابهات السياسة الخارجية للأسد ومصلحته في وجود أزمات إقليمية مستمرة، كلها كلفت سوريا الكثير، علاوة على أن الأسد كان بحاجة لتثبيت حكمه فاستمرت يد الدولة الثقيلة، ليس في المجال الأمني وحسب، بل وفي المجال الاقتصادي. هذا أدى لخلق بيئة غير صديقة لعمل اقتصادي منتج وخلقت مناخًا طاردًا للاستثمار. كما خلقت نمطًا خاصًا من قطاع الأعمال، فرح به قطاع الأعمال الريعي وغضب منه قطاع الأعمال المنتج.

كل هذا جعل قدرة الدولة أضعف فأضعف على خلق النمو، وخلق فرص عمل كافية، ورفع مستويات المعيشة، وحل مشكلات البطالة والسكن وتحسين التعليم والصحة والنقل وغيرها؛ فصارت معاناة الفئات الشعبية أكبر،  فاستمرت بالتالي في الابتعاد عن السلطة لأنها باتت سلطة رأس المال وخاصة لأبناء المسؤولين.

عندما توفي حافظ الأسد كانت السياسة قد سُحبت من المجتمع، وكانت طبقة رجال الأعمال قد نمت، ونمت نخب اجتماعية جديدة من أصول ريفية ومدينية. وكان قطاع الأعمال السوري يدور، في معظمه، في فلك الدولة، بغض النظر عن مدى رضاه عن الدولة وسياستها. وكان الصناعيون من أكثر فئات رجال الأعمال تذمرًا.

السنوات العشر الأخيرة: رأسمالية الأقارب

في العاشر من يونيو/حزيران 2000 توفي حافظ الأسد. وجرى توريث السلطة من الأب للابن، ولكن السوريين لم ينهضوا ضد هذا التوريث لقناعتهم بأن سلطة الأسد سلطة تبطش ولا قبل للشعب الأعزل بمقاومة النظام الأمني، وكانت ذكرى مجازر مطلع الثمانينيات ماثلة في الأذهان. وبدلاً من المقاومة أقنع السوريون أنفسهم بأن هذا الشاب الطبيب الذي درس في بريطانيا مختلف عن والده ولابد من أن ينقل سوريا نحو آفاق جديدة؛ فصدَّق غالب السوريين الوعود الغامضة بالتغيير التي قدمها الرئيس الجديد في خطاب القسم في 17 يوليو/تموز 2000.

لكن طليعة من المثقفين والسياسيين المعارضين اليساريين والعلمانيين والليبراليين، رأت أن الظرف مناسب للتحرك والدعوة للتغيير. ومن جانبه، تساهل النظام آنذاك لبعض النشاط السياسي والاجتماعي كنوع من الترضية لقبول الرئيس الجديد؛ فصدر بيان وقَّعه 99 مثقفًا يدعو للتغيير وللحرية والديمقراطية، ثم تبعه بيان ال 1000 ثم تأسست لجان إحياء المجتمع المدني من قبل مجموعة من الناشطين والمثقفين السوريين، ونشأت المنتديات السياسية والثقافية في البيوت، وشهد المجتمع السوري حيويةً ونشاطًا واسعًا شمل المدينة والريف. وسُميت تلك الحركة آنذاك بـ “ربيع دمشق”.

لم يطل الزمن حتى أصيب السوريون بخيبة الأمل ببشار، واكتشفوا أن ربيع دمشق ربيع بلا زهور، على حد تعبير الكاتب السوري محمد كامل الخطيب، لأن صقيع النظام قتل زهوره سريعًا؛ فاعتقل في سبتمبر/أيلول 2001 عشرة من نشطاء ربيع دمشق ولوحقت المنتديات الثقافية في البيوت. تدنى خطاب النظام من “التغيير” إلى “الإصلاح”، ثم هبط من “الإصلاح” إلى “التطوير والتحديث”. وفي الواقع لم يجرِ شيء أكثر من تغييرات ديكورية دون أن تمس جوهر النظام. واتضح أن نظام الأسد متصلب، وأنه غير قابل للتغيير، وأن بشار الأسد والنخبة الحاكمة التي تشعر بعمق بعدم المشروعية تخشى أي تغيير وتخشى من تنامي قوى المجتمع التي تعبِّر عن إرادة الشعب. استمر النظام، خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في قمع أية محاولة للتنظيم والتعبير. لقد استمر في سياسة “الجمود على الموجود” مع تغييرات سطحية لم تمس جوهر النظام. ولم يطُلِ التغيير الملموس إلا الجبهة الاقتصادية.

في عهد بشار الأسد، أُعلن تبني اقتصاد السوق والتخلي عن شعار الاشتراكية؛ فطبق النظام برنامج إصلاح اقتصادي بطئ، يُدار بكفاءة ضعيفة ويخدم مصالح فئة من رجال الأعمال، يغلب الطابع الريعي على نشاطهم. وجُمِّد إصلاح القطاع العام وارتبكت الدولة أمام هذا الملف، لكن تم فتح كافة قطاعات الاستثمار المغلقة أمام قطاع الأعمال الخاص السوري وغير السوري في الصناعة والتجارة والنقل والاتصالات والبنوك والتأمين والصيرفة والنفط وغيرها. ونما دور القطاع الخاص المتوسط والكبير، ليُسهم في السنوات الأخيرة بأكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي.

على أن النفاذ إلى الاستثمارات ذات الأهمية والربحية بقي يمر عبر بوابات خاصة، تعود لمجموعة صغيرة من عائلات، تمثل مصالح النخبة الحاكمة. سيطر كبار رجال أعمال السلطة على القطاعات التي تنتج الدخل السهل، مثل الاتصالات ووكالات الشركات الأجنبية وتجارة النفط ومشتقاته والأسواق الحرة ومشاريع مقاولات الدولة، بينما ابتعدوا عن قطاعات الزراعة والصناعة بسبب تعقيداتها ومخاطرها وأرباحها المحدودة؛ فخلق هذا الوضع انقسامًا ضمن طبقة الأعمال السورية، أثار تذمر جزء كبير من قطاع الأعمال.

أدت سياسة بشار الأسد الليبرالية إلى تآكل شبكة الضمان الاجتماعي، وتراجع دعم الأسعار، وتحويل جزء من خدمات المستشفيات إلى خدمات مدفوعة، وتدهور الخدمات الصحية المجانية، وتراجع التعليم، وتراجعت مساهمة الجمعيات السكنية في تأمين مساكن لمحدودي الدخل، وبالمقابل تم التسهيل للقطاع العقاري. كل هذا رفع تكاليف المعيشة. وكان الصراع على رفع أسعار المشتقات النفطية وخاصة المازوت من أبرز الأمثلة على السياسة الجديدة للدولة، فقد ارتفعت أسعار المازوت، مع تأثيرها الكبير على حياة الناس، دون أي تعويض حقيقي للفئات محدودة الدخل. وشكَّلت هذه المسألة أحد أبرز المعارك التي أحدثت ضجيجًا في الشارع السوري منذ 2007 حتى 2011، ولقيت صدى سلبيًا في أوساط الفئات الشعبية.

لقد بدَّل النظام تدريجيًا تحالفه التاريخي، من التحالف الذي قام عليه النظام في ستينيات القرن العشرين، والذي يقوم على تحالف العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، إلى تحالف النخبة الحاكمة مع طبقة رجال الأعمال الريعية الجديدة، التي يشكِّل رجال أعمال عائلات النخبة الحاكمة نواتها.

2010: عام السخط

مع قدوم عام 2010 كانت قد تراكمت مشكلات السوريين وأصبح الحطب يابسًا ينتظر شرارة:

تذمر واسع من انعدام الحريات العامة وإهدار حقوق الإنسان، في وقت تساهم فيه وسائل التواصل الاجتماعي في رفع الوعي بين قطاعات واسعة من الشباب بحقوقهم وبإحساسهم بالظلم.

تذمر واسع من نظام أمني ثقيل القبضة يهدر كرامة المواطنين؛ فالأمن السوري له الحق، بموجب التشريعات والممارسة، في أن يتهم ويعتقل ويسجن ويصدر الحكم وينفذه، دون أية إمكانية للاعتراض. وقد استخدم الأمن بإفراط كل هذه الصلاحيات المطلقة غير الخاضعة لحساب. فكان الإحساس بجرح الكرامة يتراكم ويتراكم لدى السوريين على مدى عدة عقود.

مشكلات اقتصادية، من بطالة وأزمة سكن وتعليم وصحة وخدمات وغلاء معيشة وارتفاع معدلات الفقر، مقابل غنى فاحش يزداد بروزًا كل يوم.

مشكلات ضعف كفاءة الدولة وإدارة الموارد وفساد الإدارة وفساد القضاء.

قتل قدرات السوريين على المبادرة والإبداع.

عدم رضا واسع بين رجال الأعمال بالخارج.

التأزم الطائفي الذي استمرت مفاعيله منذ الأيام الأولى لانقلاب 8 مارس/آذار وحتى اليوم، دون أن تقوم النخبة الحاكمة بأي إجراء لوقف مفاعيله في المجتمع.

إضافة لكون جُل ضباط انقلاب البعث 1963 من العلويين؛ فقد نظر السنة إلى الإجراءات “الاشتراكية” في أواسط الستينيات على أنها موجهة ضدهم. فطبقة الإقطاع، وكبار ملاك الأرض وكبار رجال الأعمال ووجهاء المدن، هم من السنة في معظمهم. كما أن العائلات البارزة كانت مدينية في معظمها.

كان رد الفعل الأول من قبل الطبقات والفئات المزاحة هو محاولة انقلاب جاسم علوان يوليو/تموز 1963، ثم انتفاضة مدينة حماه الأولى بقيادة الإخوان المسلمين في مايو/أيار 1964.

بعد سيطرة حافظ الأسد على كافة مقاليد الأمور عام 1970 ، سعى، بشكل مؤسسي، إلى استخدام الطائفة العلوية المهمشة والفقيرة لتثبيت حكمه. لقد كان يعلم أن المجتمع السوري لن يقبل لسنوات عديدة “رئاسة الأسد إلى الأبد”. وكان يدرك أنه لن يكون لديه “حرب تشرين” أخرى تعطيه شرعية لبضعة سنوات، وأن المطامع بالسلطة لا تنتهي، فقام بتعزيز اعتماد الجيش والأمن على الطائفة العلوية التي تشكِّل بين 10– 12% من مجمل السكان. وعمل الأسد على إنتاج طبقة من كبار رجال الأعمال من أبناء الطائفة مثل عائلة مخلوف. كما عمل على زيادة أعدادهم بين العاملين في الدولة وكادراتها، وفي السلك التعليمي والدبلوماسي وفي عدد من القطاعات مثل النفط والجمارك. من جهة أخرى، أحجم الأسد عمدًا عن تنمية المنطقة الساحلية حيث يقطن جل العلويين، فلم يقيم فيها مصانع ومشروعات تذكر تخلق فرص عمل كثيرة تثبِّت الناس في موقعهم، وذلك كي يبقى هؤلاء الفقراء مضطرين للذهاب إلى دمشق والعمل في الجيش والأمن أو الوظائف الحكومية أو حراسة قصره وبيوت كبار المسؤولين في دمشق وبقية المدن السورية.

ولكن انتشار الأفكار الاشتراكية في الستينيات والسبعينيات وعادات التعايش الراسخة في سوريا جعلت الانتماء الطبقي يطغى ويُضعف الانتماء الطائفي، فلم يكن للتأجيج الطائفي قوة تذكر أو تأثير كبير، فلم يأخذ التوتر الطائفي حجمًا ذا تأثير على استقرار المجتمع. وقد قام النظام بقمع أية تعبيرات عنه. ولكن هذا التوتر كان ينمو ببطء على مر السنين، رغم سعي النظام لتبريده بطرق مختلفة أهمها التذكير بوجود العدو الصهيوني وبأن سوريا بلد ممانعة ومقاومة، إضافة إلى تحالف النظام مع قوى إسلامية مثل حماس وحزب الله والإخوان المسلمين خارج سوريا، ودعم المقاتلين في العراق ضد الاحتلال الأميركي، وحتى التعاون مع القاعدة. أما داخل سوريا فلم يُسمح بقيام أي تنظيم أو نشاط سياسي خارج خيمة الدولة.

دينامية قوى الثورة

في مطلع 2011 نضجت كل عوامل الظرف الثوري:

فئات واسعة -وخاصة شبابية- تعي بدرجة أعلى مطالبها وحقوقها، وترفض أن تستمر في قبول هذا الواقع، وتزايد شعورها بضرورة التحرك وفعل شيء وأنها قادرة على الفعل.

نظام حكم متقادم موروث عن فترة الحرب الباردة، وطبقة حاكمة عاجزة عن تقديم حلول لمشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية متزايدة.

قدرة الشباب على التواصل والتنظيم عوَّضت وجود تنظيم سياسي قيادي قوي.

انطلاقة الربيع العربي، وسقوط أنظمة الحكم في تونس ثم مصر، وانطلاقة ربيع ليبيا واليمن خلقت الثقة بالقدرة على الفعل وقدحت شرارة الثورة.

انطلقت التظاهرات أولاً في قلب دمشق بمجموعات صغيرة من الشباب المتعلمين والمثقفين والناشطين السياسيين. ثم بسبب حادث اعتقال أطفال درعا وتعذيبهم ثم إهانة أهاليهم، ثم إطلاق النار على مظاهرة سلمية في درعا للمطالبة بإطلاق سراح أطفالهم، ورفض الأسد محاسبة من أطلق النار، كل هذا قد أشعل النار في الهشيم، وسرعان ما امتدت نار الثورة إلى كافة أنحاء سوريا، فشارك فيها الملايين من كافة طبقات الشعب السوري وفئاته الاجتماعية والطائفية.

كان نظام الأسد مصممًا مسبقًا على اعتبار كل متظاهر يطالب بالحرية عدوًّا يستحق الموت. وقد حضَّر خططه للمواجهة. واستمر النظام يطلق النار على التظاهرات السلمية، ولكن استمرار إطلاق النار والقمع الوحشي من قِبل النظام على مدى الشهور الأولى وقتل واعتقال قيادات الموجة الأولى من المظاهرات، دفع بالفئات المتعلمة والطبقات الوسطى إلى الإحجام عن المشاركة في المظاهرات وحوَّل طبيعة المشاركين فيها باتجاه الفئات الشعبية التي تتمتع بصلابة أقوى وقدرة جسدية أعلى على التحمل، مع استمرار مشاركة فئات من المتعلمين والتقنيين بأشكال أخرى. كما أدى القمع إلى تمركز التظاهر في المناطق ذات التضامن الاجتماعي القوي. غير أن هذا لم يَعُقْ توسع التظاهر ليصل إلى أكثر من 500 نقطة تظاهر صغيرة وكبيرة تمتد على كامل مدن وبلدات وقرى محافظات سوريا في أيام الجمعات. ويقع التظاهر في نفس المناطق التي شكَّلت سابقًا القاعدة التاريخية للنظام، بدلاً من تمركزها في أكبر مدينتين، مثل دمشق وحلب.

شكَّلت المساجد، بسبب منع التنظيم والتعبير والتجمع، المكان المتاح للتجمع وانطلاق التظاهر مما أعطى التظاهرات مظهرًا طائفيًّا في الغالب. وقد عزَّز هذا الطابع الطائفي، من الجهة المقابلة، أن المؤيدين للنظام من عناصر الأمن والشبيحة  ينتمون للطائفة العلوية. وقد سعى النظام لدفع التظاهر بهذا الاتجاه كي يزرع الخوف في أوساط الطائفة العلوية والمسيحيين فيدفعهم للامتناع عن المشاركة في التظاهر، وقد نجح في ذلك. كما سعى لدفع المتظاهرين إلى حمل السلاح فيجرهم إلى ميدان يعتقد أن الكفة العسكرية فيه ستكون لصالحه، ويخلق مبررًا لاستعمال السلاح أمام مجتمع دولي يزداد تدخلاً في الشؤون الداخلية للبلدان.

كل هذا جعل التظاهر يتسم بمشاركة أوسع للفئات الشعبية السُّنية، بينما تشارك الطوائف الأخرى على نحو ضعيف. كما أن فئات واسعة من السنة لا تشارك في التظاهر، وخاصة معظم مدينة دمشق ومعظم مدينة حلب ومحافظة الرقة. أما الأكراد فقد بقيت مشاركتهم محدودة وتتخذ طابعًا هادئًا فلا يتعرض لها النظام بالرصاص. ويُفسَّر هذا باتفاق بين النظام وبين قياداتهم. وتردَّد الدروز وهم مجموعة صغيرة من السكان في المشاركة في التظاهر. ولكن في الآونة الأخيرة بدأت مشاركتهم بالتصاعد، بينما شارك الإسماعيليون بقوة في مدينة السلمية التي تُعد المركز التاريخي للمذهب الإسماعيلي في العالم.

وقف كبار رجال الدين في مختلف الطوائف إلى جانب النظام أو وقفوا موقف المتفرج، وإن كان مَنْ دونهم أكثر  تعاطفًا مع الثورة.

ساند جزء من رجال الأعمال النظام، ودعمه، وخاصة في الشهور الأولى، بينما تعاطف بعضهم مع الثورة، ووقف البعض موقف المتفرج. والقليل منهم قدَّم دعمًا للثورة، بل جاء معظم دعمِها من رجال أعمال سوريين خارج سوريا. وتفسير هذا هو أن طبقة رجال الأعمال الجديدة في سوريا نشأت برعاية النظام، عبر موازنة الدولة ومشروعاتها. ولم يسمح النظام لطبقة رجال الأعمال أن تكون طبقة تعي ذاتها وتطور برنامجها الوطني المستقل.

انقسمت الفئات الوسطى والتكنوقراط والفئات المتعلمة في موقفها بين مؤيد للنظام ومؤيد للثورة؛ فجزء غير صغير من هذه الطبقة استفاد من النظام. وقد شكَّلت قيادات حزب البعث على كافة المستويات العليا والوسطى والدنيا، وقيادات النقابات و”المنظمات الشعبية” وقيادات مؤسسات الدولة، شكّلت طبقة من المنتفعين الموالين، أو المترددين منتظرين جلاء الموقف ومن ستكون له الغلبة. وقد لعب عنف الدولة في قمع المظاهرات دورًا في دفع المتعاطفين مع الثورة إلى التزام بيوتهم. أما قطاع الأعمال الصغير والمتوسط فقد ازداد تذمره في السنوات الأخيرة؛ فسياسة الانفتاح حوَّلت المياه نحو طواحين رجال الأعمال الكبار؛ فإنشاء شركة نقل ركّاب يحرم أصحاب النقل الصغار من العمل. وتوسيع نشاط شركات التطوير العقاري جاء على حساب المتعهدين الصغار. وافتتاح سوبر ماركت يغلق عشرات الحوانيت…. وهكذا. أما فئات الفلاحين وفئات العمال وأصحاب الدخل المحدود فقد ازدادت أوضاعهم سوءًا.

مستقبل الحراك المجتمعي

سيفتح سقوط نظام الأسد الصراع الاجتماعي بعد أن تم إغلاقه لمدة خمسة عقود، وسيطلق طاقات قوى المجتمع ويخلق حراكًا اجتماعيًا قويًا. لكن يصعب اليوم تقديم تصور دقيق حول مسارات تطور سوريا وحراكها الاجتماعي مستقبلاً؛ فالأحداث ما زالت في حالة سيولة. وسيتوقف مستقبل سوريا على الطريقة التي تنتهي بها هذه الأحداث.

إن انتهت الأحداث عبر حل تفاوضي، يجري في الأسابيع القليلة القادمة، ويجبر الأسد على التخلي عن السلطة، وتنتقل البلاد إلى حكم ديمقراطي تعددي تداولي وتُشكَّل حكومة وحدة وطنية تحول دون الفوضى والتطرف والحرب الأهلية والانتقام. وستكون البلاد مركز جذب للاستثمارات، وستتمكن من تحقيق تقدم ونمو اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي جيد.

إذا لم تنتهِ الأحداث على هذه الشاكلة وبقي الأسد مصرًّا على القتال حتى النهاية وبقيت روسيا تسانده، ولم يحدث تدخل دولي لحماية المدنيين، فإن الصراع سيطول وستُهرَق دماء كثيرة، ولكن النظام سيسقط في النهاية وستسيطر حينها الفئات الأكثر راديكالية ويصعب التنبؤ بالآثار المدمرة وخاصة مسألة الثأر. والعراق نموذج.

أما إذا انتهت الأزمة بسرعة نسبية بفضل تدخل فعال للحلف الدولي الذي يتم العمل على تشكيله هذه الأيام، فإن الأضرار ستكون أقل ويمكن السيطرة عليها.

في جميع الأحوال سيكون النظام السياسي في سوريا نظامًا ديمقراطيًا تعدديًا تداوليًا، يعتمد اقتصاد السوق، وستكون المبادرة الفردية سيدة الموقف. وسيزداد نفوذ قطاع الأعمال وخاصة الكبير. وفي السنوات الأولى، سيزداد استقطاب الثروة من جهة ولكن ستقوم الفئات الاجتماعية الشعبية بتنظيم صفوفها وفرض نفسها كلاعب يطالب بحصته في التنمية وبتحقيق نظام اقتصادي منتج وعادل.

سيكون الإسلام السياسي لاعبًا حاضرًا في المشهد السوري. أما سيناريو سيطرته على المشهد السياسي وتوقع فوزه في الانتخابات القادمة، بما يشبه تونس ومصر وليبيا؛ فنصيبه في التحقق أقل، بسبب تركيبة المجتمع السوري وبسبب موقف رجال الأعمال السوريين التاريخي من الإسلام السياسي، وبسبب رغبة معظم قوى المجتمع السوري في تأسيس دولة مدنية ليست عسكرية ولا ثيوقراطية.

ورغم ذلك، حتى لو فازت هذه القوى فسيكون فوزها مقبولاً طالما أنه جاء عن طريق صناديق الانتخابات النزيهة. ولكن سيبقى الصراع مفتوحًا بين قوى المجتمع؛ فالقاعدة الأهم في النظام الجديد هي ألاّ يستطيع أي طرف فائز اليوم أن يستغل فوزه ويغلق الباب ويعطل العملية الديمقراطية فارضًا ديكتاتورية تحت أي مسمًّى كان.

سمير سعيفان-اقتصادي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى