الغوطة الشرقية: من هنا مرّ النحاسون/ منتصر أبو زيد
تُسابِقُ مليشيات النظام الزمن، لتعفيش مدن الغوطة الشرقية وسرقة منازل أهلها، وترحيل محتوياتها إلى الأسواق المختصة، قبل أن تسمح الأجهزة الأمنية بعودة السكان من نقاط احتجازهم في “مراكز الإيواء”. ورشات التعفيش بدأت عملها فور سيطرة مليشيات النظام على مناطق المعارضة، وقد شهدت أحياء الملعب وخلف البلدية في دوما تعفيش محتويات منازلها بالتزامن مع مفاوضات “جيش الإسلام” مع روسيا. سيارات التعفيش نقلت المسروقات عبر حرستا، التي وقعت اتفاق “التسوية” قبل دوما، وكان عناصر النظام يسخرون بالقول: “المفاوضات في دوما والتعفيش بحرستا”.
وتتولى عمليات التعفيش بالدرجة الأولى “قوات النمر” لصاحبها العميد سهيل الحسن، إلى جانب “الحرس الجمهوري”. وينشط التشكيلان في معظم مدن الغوطة الشرقية، عدا مدينة حرستا التي تتولى تعفيشها “قوات الغيث” التابعة لـ”الفرقة الرابعة” التي كان لها الدور الأكبر بالسيطرة البرية على المدينة.
ويدّعي عناصر “قوات النمر” بأنهم أصحاب الحق في تعفيش الغوطة، كونهم أبرز قوة برية ساهمت بالسيطرة عليها بدعم عسكري وإعلامي روسي. وتحدث الإعلام الروسي بشكل صريح عن تفوق “قوات النمر” على بقية القوات، التي عجزت عن التقدم إلى الغوطة الشرقية من المحاور الشرقية. “قوات النمر” اعتبرت ذلك امتيازاً خاصاً بها من روسيا، ما أعطاها الأحقية في السرقة، على مرأى الشرطة العسكرية الروسية المتواجدة على الحواجز في مختلف مدن الغوطة. ويتباهى عناصر “النمر” بأن تعفيش الغوطة هو وعد مسبق، ومكرمة لهم، بعد السيطرة عليها، إذ أنهم غامروا بأرواحهم في سبيل ذلك، في وقت كانت فيه بقية المليشيات تراقب المعارك الطاحنة.
وتشارك في عمليات التعفيش، ولكن بوتيرة أقل، مليشيات “الدفاع الوطني” و”جمعية البستان” و”الشبطلية” و”أسود الغوطة” و”حسيب الأسد”، التي خاضت معركة الغوطة أيضاً.
وتختلف طريقة تعفيش وتسويق المسروقات، من مليشيا إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى. بعض المليشيات تُرحّلُ المسروقات بأرتال السيارات، إلى مستودعات ضخمة في العاصمة، على مرأى سكانها وتجاهل وسائل إعلام النظام. ويتم فرز المسروقات لاحقاً، وفق جودتها ونوعيتها. فيما تعرض مليشيات أخرى المسروقات داخل الغوطة بطريقة “الضمان” أو “المزاد”، ليشتري التجار والمتعهدون المسروقات بعد معاينتها داخل المنازل والأحياء بأسعار تقديرية، ويتولون ترحيلها وبيعها في الأسواق المخصصة. أو قد يتم تنظيم عقود محاصصة بالأرباح بين ضباط النظام والتجار، ليجني كل منهم أكبر قدر ممكن منها.
وتبدأ عمليات التعفيش بسرقة السيارات والأدوات الكهربائية، وتليها المفروشات، ثم الأبواب والنوافذ، ثم كابلات النحاس، ثم يتم اقتلاع سيراميك الأرضيات وأحجار الرخام. ما يجعل المنازل جرداء تماماً، “على العظم”، ليتركوا لأصحاب المنازل، إن تمكنوا من العودة يوماً، مهمة الإكساء من جديد.
وتمنع مليشيات النظام وسائل الإعلام من تصوير المستودعات والمنشآت قبل تعفيشها، كي لا يتم توثيقها، في حين تسمح بتصوير مقرات المعارضة سابقاً كالأبنية والأنفاق والسجلات والخرائط.
واستولت المليشيات على جميع السيارات والمستودعات والآلات التي لا يبرز أصحابها وثائق ملكيتها، بحجة عائديتها لفصائل المعارضة واستخدامها في المعارك ضد النظام. كما استولت المليشيات على عشرات المستودعات، وأجهزة المستشفيات والمدارس والمنظمات الثورية، وباعتها بطرق مختلفة.
ويعرض ضباط النظام السيارات المسروقة، عبر مكاتب مخصصة، على زبائن خسروا سياراتهم خلال سنوات الثورة وبقيت أوراقها الثبوتية بحوزتهم. فيشتري أولئك الزبائن السيارات المسروقة المطابقة لمواصفات سياراتهم، بأسعار بخسة، ما يمكنهم لاحقاً من بيعها مع الثبوتيات بأسعار عالية.
ونظراً لتنامي ظاهرة التعفيش منذ اندلاع الثورة، أُحدثت أسواق بيع المسروقات في مختلف مناطق دمشق وريفها، من أبرزها “سوق السنّة” في السومرية، و”سوق المستعمل” في ضاحية الأسد. كما أُغرقت أسواق جرمانا بالمسروقات القادمة من الغوطة الشرقية، وامتلأت شوارع النسيم والحمصي والخضر بالبضائع. وأصبحت مدينة جرمانا القريبة من الغوطة الشرقية قبلة زبائن المستعمل القادمين من المناطق المحيطة. ويتم تسويق المسروقات أيضاً في شارع كشول في حي الدويلعة، وسوق الكباس وشارع الثورة في العاصمة دمشق.
ويتوافد رواد التعفيش على المسروقات القادمة من الغوطة نظراً لانخفاض ثمنها وجودة صناعاتها. إذ لطالما اشتهرت مدينة سقبا بإنتاج أجود أنواع المفروشات، في حين امتازت مدينة دوما بحرفية صناعة الأدوات المنزلية كالمدافئ والخزانات والصناعات البلاستيكية، وتشتهر مدينة عربين بضخامة مستودعاتها. واستولت مليشيات النظام على عشرات مستودعات الأقمشة والأدوات الكهربائية والألواح الخشبية المعالجة وغيرها، إذ لم يتم استهلاك محتويات تلك المستودعات خلال سنوات الحصار من قبل أهالي الغوطة، لعدم الحاجة الفعلية لها.
وتحتجز الأجهزة الأمنية العائلات التي غادرت الغوطة من “المعابر الآمنة” خلال معارك السيطرة عليها في “مراكز الإيواء”، وتمنعها من العودة من دون أسباب واضحة، إلا انتظار إتمام تعفيش المدن، وإفراغ المنازل والمستودعات من محتوياتها بشكل كامل.
وتمنع مليشيات النظام المدنيين المتواجدين في الغوطة الشرقية من دخول المناطق التي غادرها سكانها بعد اقتحامها بالقوة العسكرية، من دون تصريحات رسمية، كما في حمورية وحزة وجسرين. إذ تتعهد المليشيات بتعفيش تلك المدن بشكل كامل. في حين تستثني المليشيات المنازل التي يقيم فيها المدنيون، في المناطق التي أجرت “تسويات”، كسقبا وعربين ودوما وزملكا.
ويدعو الأهالي الباقون في الغوطة، أقاربهم في دمشق أو “مراكز الإيواء” للعودة بأقصى سرعة إلى منازلهم وأملاكهم، ولو بدفع الرشاوى للضباط، لعلهم يتمكنون من الوصول إلى ممتلكاتهم قبل أن تصل إليها ورشات التعفيش.
ويستعين تجار التعفيش والمتعهدون، بالإضافة لعناصر المليشيات، بعمال مياومين بأجرة 2000 ليرة سورية، في أعمال تتناسب مع مهنهم أو الحرف التي تعلموها خلال مسيرة التعفيش، كفك الأبواب ونوافذ الألمنيوم بطرق سليمة، واستخراج الكابلات النحاسية، وفك وتركيب المفروشات الثمينة وغيرها. ومع احتكاك هؤلاء العمال مع عناصر المليشيات، تعلموا منهم “ثقافة” ترك شعارات الانتقام على جدران المنازل: “من هنا مر النحّاسون” و”أنت كريم ونحنا منستاهل” و”جنود الأسد نظفوا البلد”.
المدن