الـ”مابعد”… دون الـ”ما قبل”!
صبحي حديدي
عشية الأوّل من مايو (أيار)، عيد العمل والعمّال، كانت غالبية معدّلات البطالة تشير إلى رقم مريع يتجاوز 12.1%، في منطقة اليورو وحدها، حيث تتمركز كتلة من أهمّ اقتصادات العالم المتقدّم، تضمّ 17 دولة، بينها ألمانيا وفرنسا.
الأخبار الأخرى كانت تضيف المزيد حول الآلام الاقتصادية التي توجع اليونان، وإيطاليا، وإسبانيا، وقبرص؛ والمزيد من جولات الشدّ والجذب بين فرنسا وألمانيا، الدولتَين والاقتصادَين؛ وبين فرنسوا هولاند وأنغيلا ميركل، شخصياً، في ذروة القرار السياسي؛ وبين “الحزب الاشتراكي” الفرنسي، وحزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” الألماني، على مستوى حزبي وإيديولوجي. في الآن ذاته، ولكي لا تغيب واحدة من مفارقات النظام الرأسمالي المعاصر، كانت أحزان الجموع بمثابة أفراح عند القلّة، إذْ بيّنت الوقائع أنّ سطوة صندوق النقد الدولي لا تتضاءل على وقع الأزمات هذه، بل تتعاظم!
وثمة ما يشبه الطرافة السوداء في حقيقة أنّ مؤسسات رأسمالية عتيقة، مثل البنك الدولي والصندوق واتفاقيات الـ GATT ومنظمة التجارة الدولية، ما تزال قائمة وفق الوظائف ذاتها التي سنّها لها حكماء الاقتصاد الرأسمالي سنة 1944، بل أشدّ جبروتاً ونفوذاً، كما يُفهم من تصريحات كريستين لاغارد، المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، عشية… عيد العمال! ذلك لأنّ روحية اتفاقيات بريتون وودز، حيث انعقد مؤتمر النقد الدولي قبل سبعة عقود وأنشأ هذه المؤسسات، هي ذاتها التي تتعرّض اليوم لارتجاج بنيوي عميق، يبرّر تلك التوصيفات الكابوسية للمآزق الراهنة، في أنها أشبه بـ 11/9 أو بيرل هاربور على صعيد البورصات والأسواق.
ورغم هذا كلّه، لا نعدم منظّراً هنا، أو متفلسفاً هناك، يطالبنا بأن نعيش حقبة ما بعد انهيار مصارف “وول ستريت” وبورصاته، تماماً كما طولبنا بأن نعيش في ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وما بعد الحرب الباردة، وما بعد الحداثة، وما بعد المجتمع الصناعي، وما بعد الإيديولوجيا، وما بعد التاريخ، وما بعد السياسة… حتى بات من النافل الحديث عن أيّ سابق على الـ”ما قبل”. كأنّ كل شيء حدث لتوّه، كما استغرب الباحث الأمريكي دافيد غريس في كتابه المثير “دراما الهوية الغربية”: العالم يخلع أرديته واحدة تلو الأخرى، من العقلانية والرومانتيكية والثورية، إلى تلك الرجعية والوثنية والمحافظة، مروراً بالليبرالية والرأسمالية والاشتراكية، فضلاً عن الأصوليات والعصبويات والهمجيات.
ولكن إذا توجّب، بالفعل، أن نعيش في حقبة الـ”ما بعد”، المتغايرة المتتابعة هذه؛ فلماذا يتوجّب أن لا تكون هذه حقبة التبدّلات الكبرى التي تطرأ، أيضاً، على ملفّات لاح أنها استقرّت أو رسخت أو انتصرت نهائياً، مثل بداهة العولمة، وحتمية اقتصاد السوق، وقدرية انكماش العالم إلى قرية صغيرة؟ ولماذا لا تكون حقبة ما بعد انهيارات “وول ستريت”، إسوة بشقيقتها ما بعد 11 أيلول، نذيراً باقتراب مراحل الـ “ما بعد” في هذه الأقانيم التي يتغنّى بها الغرب كلّ يوم: العولمة، اقتصاد السوق، العالم في هيئة قرية صغيرة؟
ليس هذا رأي القائلين بأنّ انتصار القِيَم الغربية، ساعة سقوط جدار برلين، هو في الآن ذاته انتصار لليوتوبيا الوحيدة المتبقية في حوزة الإنسانية، أي اليوتوبيا العليا والقصوى والأخيرة التي اتخذت هيئة “خاتم البشر” كما بشّر به فرنسيس فوكوياما، حيث لا أزمات ولا هزّات ولا انكسارات. كأنّ التاريخ لم يعرف فترات الركود الرأسمالية الطاحنة، وكأنّ اقتصاد السوق الحرّ في إنكلترا (مهد ولادة هذا الاقتصاد، وميدان تطبيقه الأوّل) لم تشهد شظف العيش اليوميّ في إسار سياسات مُفقِرة وظالمة اجتماعياً، من اللورد بالمرستون إلى مارغريت ثاتشر.
وأمّا إذا أشاح المرء بنظره بعيداً عن هذه المخططات الوردية، وحدّق مليّاً في ما تشهده حواضر الرأسمال الكبرى، في الولايات المتحدة وأوروبا تحديداً، فإنّ الغرب لن يبدو ظافراً قوياً، فقط؛ بل ذاك الذي يرهقه، أيضاً، وفي الجوهر العميق، ارتطام السرديات الكبرى، من اليونان القديم، إلى روما القديمة، ومن رحلة كريستوفر كولومبوس إلى عصر الأنوار والحداثة، ومن انهيار جدار برلين إلى دكّ مركز التجارة الدولي في نيويورك.
لا مفرّ، إذاً، من أن تثقل كاهل الغرب أمثولةُ حضارة متخمة بضروب شتى من انفجارات الـ”ما قبل”… في قلب الـ”ما بعد”!
موقع 24